دعوتنا سياسة:
جوهر الدعوة الإسلامية هو تحرير ولاءات الناس خالصة لله وإنقاذهم من ذل العبودية لغير الله، وهو نداء للاستقامة على المنهج السليم وتوجيه للناس للقيام بكل أعمال البر الصالحة.
كما أن الدعوة هي انشغال بأمر الأمة وحالها والوقوف إلى جانبها ونصرتها والتضامن مع شعوبها وأفرادها.
وهي أيضا دعوة لإقامة العدل ورفع الظلم عن الناس والقيام بإصلاح شؤونهم ومحاربة كل مظاهر وأسباب الفساد.
وكل هذه الأعمال لها مدلولات سياسية لأنها تغير فكرة بفكرة وتعاليما بتعاليم، وواقعا بواقع، وبرنامجا ببرنامج، ومشروع مجتمع بمشروع مجتمع.
والدعوة الإسلامية هي أمر بمعروف -كبيرا أو صغيرا- ونهي عن منكر -كبيرا أو صغيرا- (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ)التوبة71. ومن أعظم المعروف إقامة دولة الإسلام، والمنكر الأكبر أن يحكم المسلمون بغير الإسلام ويتولى شؤونهم شرارهم.
وتكون دعوتنا سياسة عندما نمارس النصيحة ممارسة دعوية سياسية لأن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: "الدين النصيحة، قلنا لمن؟ قال: لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم".(4).
وتكون دعوتنا سياسة عندما تصدع الدعوة بكلمة الحق: "كلمة حق عند سلطان جائر".(5).
(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً ) الأحزاب 39.
وربعي بن عامر الجندي كان داعية وسياسيا في نفس الوقت عندما أجاب قائد الفرس رستم على سؤال: ما الذي جاء بكم: "جئنا لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة".
وانظر إلى الترابط بين الدعوة والسياسة تأثيرا وتأثرا من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليسلطن الله عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لمهم" (6).
فالتقاعس عن القيام بالدعوة ينتج عنه تمكن الأشرار. إن للدعوة دور عظيم من أجل أن لا يتسلط على الناس الأخيار شرارهم فتضيع الدعوة ولا يستجاب للدعاء فيهلك الناس جميعهم.
إن الدعوة التي تعلمناها ورفعنا لواءها هي في حدّ ذاتها سياسة.
وفي هذا المعنى يقول الأستاذ البنا: "وأما أننا سياسيون بمعنى أننا نهتم بشؤون أمتنا ونعتقد أن القوة التنفيذية جزء من تعاليم الإسلام تدخل في نطاقه وتندرج تحت أحكامه، وأن الحرية السياسية والعزة والقومية ركن من أركانه وفريضة من فرائضه وأننا نعمل جاهدين لاستكمال الحرية وإصلاح الأداة التنفيذية فنحن كذلك، ونعتقد أننا لم نأت فيه بشيء جديد، فهذا هو المعروف عند كل مسلم درس الإسلام دراسة صحيحة، ونحن لا نعلم دعوتنا ولا نتصور معنى لوجودنا إلا تحقيق هذه الأهداف. ولم نخرج بذلك قيد شعرة عن الدعوة إلى الإسلام، والإسلام لا يكتفي من المسلم بالوعظ والإرشاد ولكنه يحدوه دائما إلى الكفاح والجهاد (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)العنكبوت69".(7)
ويعتبر أن المسلم الحقيقي لا يمكن إلا أن يكون سياسيا: "أستطيع أن أجهر في صراحة بأن المسلم لن يتم إسلامه إلا إذا كان سياسيا يعيد النظر في شؤون أمته مهتما بها غيورا عليها، وأستطيع كذلك أن أقول أن هذا التحديد والتجريد أمرا لا يقره الإسلام، وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع في رأس برنامجها الاهتمام بشؤون أمتها السياسية وإلا كانت تحتاج هي نفسها إلى أن تقهم معنى الإسلام".(
ووصف الدكتور القرضاوي كيف يكون المسلم سياسيا وهو في قلب الصلاة يقرأ الآيات القرآنية التي تتحدث عن الحكم وذكر كيف وظف الأستاذ حسن البنا قنوت النوازل في تعبئة الشعب المصري ضد الاحتلال الإنجليزي، ثم علق القرضاوي على ذلك بقوله: "وهكذا كنا ندخل في معترك السياسة ونخوض غماره ونحن في محراب الصلاة متبتلون خاشعون"(9).
سياستنا دعوة:
في العمل السياسي الإسلامي وراء الموقف السياسي دعوة تؤطره وتضبطه، فتأسيس التنظيم وتكوين الحزب وهيكلة الأعضاء وتسطير البرامج وإصدار السياسات وإعلان المواقف والترشح للانتخابات والقيام بالحملات الانتخابية والترويج للمرشحين والدخول إلى المجالس المنتخبة وإقامة التحالفات وربط العلاقات، والاتصال بالآخر وتسيير الإدارات، والإشراف على الوزارات وبناء المؤسسات، وتنظيم التجمعات ونشر الإعلام وعقد المؤتمرات، كل ذلك يصدر عن فكرة دعوية تبتغي إقامة الإسلام ونشر تعاليمه وتشجيع الالتزام به وتقديم النموذج الإسلامي المنتظر، وتحضير البديل الإسلامي المتميز، ومواجهة الدّعوات الباطلة والمشاريع الضالة من خلال المواقع المؤثرة التشريعية والتنفيذية والرقابية.
إنها الوظيفة الدعوية للتمكين السياسي الذي تحدث عنه القرآن الكريم: (الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ)الحج41.
لقد حددت هذه الآية الوظيفة الدعوية للتمكين السياسي في أربعة واجبات:
1- إقامة الدين والعبادة..(أَقَامُوا الصَّلَاةَ).
2- بسط النظام الاقتصادي الاجتماعي: (وَآتَوُا الزَّكَاةَ).
3- نشر الخير والصلاح والمعروف بكل أنواعه: (وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ).
4- محاربة الفساد والشر والمنكر بكل أنواعه: (وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ).
وقد يكون أحيانا في أوقات الزحف السياسي عمل السياسي وعمل الداعية مقتربا من الحالة التي وصفها عبد الله بن المبارك في رسالته إلى العابد الفضيل بن عياض التي استملها وهو في المسجد الحرام:
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا لعلمت أنك في العبادة تعلب
وعلق عليها الفضيل بقوله صدق أبو عبد الرحمان ونصحني.
سياستنا دعوة لأن العامل في الحقل السياسي يتاح له مخالطة الناس أكثر من الداعية، ويلحقه الأذى من الناس أكثر من الداعية، وقد أمر المؤمن بالمخالطة والصبر على الأذى الذي يلحقه من جراء المخالطة "المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم" (10).
وخطأ السياسي يكون عندما لا يلتزم مبادئ الدعوة ويحيد عن تعاليم الإسلام تحت إغراءات المال والجاه والسلطان. وقد قدم الحسن البصري قاعدة جليلة تتعلق بالموازنة بين العلم والعبادة يمكن القياس عليها في الموازنة بين الدعوة والسياسة، إذ يقول: "اطلبوا العلم طلبا لا يضر بالعبادة، واطلبوا العبادة طلبا لا يضر بالعلم، فإن قوما طلبوا العبادة وتركوا العلم حتى خرجوا بأسيافهم على أمة محمد صلى الله عليه وسلم، ولو طلبوا العلم لم يدلهم على ما فعلوا"(11).
وسياستنا دعوة لأن الدعوة سابقة للدولة ومنشئة لها والتاريخ الإسلامي يخبرنا أن الدول التي عمرت كثيرا واستعمرت الأرض هي تلك التي أنشأتها دعوة ثم قامت الدولة بنفسها بمهمة الدعوة.
ويقر بذلك العلامة بن خلدون في مقدمته: "الدول العامة الاستيلاء العظيمة الملك أصلها الدين إما من نبوة أو دعوة حق".(12)
وعندما يبدأ الانفصال بين الدعوة والدولة يبدأ الانحراف ويبدأ العد التنازلي لسقوط الدولة وينحسر سلطانها. وقد أمرنا في هذه الحالة أن لا نفارق الكتاب وأن لا نسعى إلى السلطان لإرضائه على حساب طاعة الله: "ألا إن رحى الإسلام دائرة فدوروا مع الإسلام حيث دار، ألا إن القرآن والسلطان سيفترقان فلا تفارقوا الكتاب".(13)
وخلاصة القول أنه في منظور العمل السياسي الإسلامي لا يمكن أن تنفصل السياسة عن الدعوة لا في المرجع ولا في الهدف ولا في الموضوع ولا في النتيجة، فالإسلام مرجعهما والإنسان موضوعهما وشؤون الناس والقيام عليها بما يصلحها هدفهما وصبغ حياة المسلمين بصبغة الله نتيجة لأعمالهما (صِبْغَةَ اللّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ صِبْغَةً)البقرة138.
ولذلك نكرر دوما أن دعوتنا سياسة.. وسياستنا دعوة