ثمة شخصان يمكن القول إنهما كانا أصحاب التأثير الفكري الأهم في تاريخ حركة الإخوان المسلمين بعد مؤسسها الشيخ حسن البنا (المتوفى 1949)؛ وإذا كان الأستاذ سيد قطب (أعدم عام 1966) وهو المفكر الحركي الأول الذي ملأ الفراغ الذي تركه اغتيال مؤسسها في مقتبل أربعينياته؛ فإن اللبناني فتحي يكن (توفي السبت 13 يونيو 2009) كان الرجل الأكثر تأثيرا في الفكر الحركي لمدرسة الإخوان المسلمين في تأسيسها الثاني، وهو الذي يمكن التأريخ له ببداية الصحوة الإسلامية في سبعينيات القرن العشرين.
وإذا كان قطب قد صاغ الملامح والقواعد العامة للمشروع الحركي الذي أثر في الإخوان، بل والحركة الإسلامية في أنحاء العالم فإن يكن هو من فصّل هذا المشروع وشرحه في بيان ميداني تلقفته الحركة الإسلامية، وصاغت عليه وعيها، ورسمت وفقه منهجها في التربية الحركية.
ورغم أنه قضى سنواته الأخيرة بعيدا عن جماعة الإخوان المسلمين التي كان هو أحد أهم مؤسسي وقادة فرعها في لبنان (الجماعة الإسلامية)؛ بعد خلاف تنظيمي أثمر –فيما يشبه الانشقاق- عن جبهة العمل الإسلامي؛ إلا أن بصمات فتحي يكن في مسيرة الجماعة الإسلامية اللبنانية والإخوان المسلمين في العالم تظل عميقة، وتتجاوز خروجه من الجماعة، وستبقى لسنوات وربما عقود قادمة.
تشكيل العقل الحركي للإخوان
كان الأستاذ فتحي محمد عناية، أو فتحي يكن (نسبة إلى جده لأمه) المولود عام 1933، من الرعيل الأول بين مؤسسي الحركة الإسلامية في لبنان، والتي نشأت في عقد الخمسينيات متأثرة بجهود الإخوان السوريين، وعلى رأسهم الشيخ مصطفي السباعي، وكان يكن أول مستشار أو أمير للجماعة الإسلامية في لبنان الفرع القطري لتنظيم الإخوان المسلمين.
وتعد كتابات فتحي يكن في الدعوة والحركة من أهم ما شكل عقل ووعي الحركة الإسلامية في العقود الثلاثة الأخيرة من القرن الفائت ليس في لبنان وحدها، بل في معظم أنحاء العالم الإسلامي وخارجه أيضا، وساعد على ذلك أن كثيرا مما كتبه كانت الحركة تدرسه في أطرها التنظيمية والتربوية الخاصة، فضلا عن توسعها في نشره في فضاء الدعوة العام.
للأستاذ فتحي يكن كتب كثيرة معروفة مثل: مشكلات الدعوة والداعية، وكيف ندعو إلى الإسلام؟، ونحو حركة إسلامية عالمية واحدة، وحركات ومذاهب في ميزان الإسلام، ونحو صحوة إسلامية في مستوى العصر، والمناهج التغييرية الإسلامية خلال القرن العشرين، والشباب والتغيير، والموسوعة الحركية،... لكن كل من انتسب للحركة أو درس تاريخها سيتوقف كثيرا أمام بعض كتبه التي تحمل بصمات منهجه ومنها: الإسلام فكرة وحركة وانقلاب، وأبجديات التصور الحركي للعمل الإسلامي، وماذا يعني انتمائي للإسلام، وقطوف شائكة من حقل التجارب الإسلامية، والمتساقطون على طريق الدعوة.
روح سيد قطب ومنهجه
في هذه الكتب تبدو روح الشهيد سيد قطب أوضح ما تكون، ويتجلى صدى أفكاره الذي تدعو الحركة الإسلامية إلى القطع مع تصورات مجتمعاتها والانقلاب عليها في الروح والتصور والسلوك، كما تشرح متون قطب التي تتبنى المفاصلة مع الخصوم والاستعلاء عليهم بالإيمان بما يؤسس لعزلة الحركة الإسلامية عن مجتمعها، في هذه الكتب يظهر سيد قطب، ولكن في بيان ميداني قد يكون أقل بلاغة، ولكنه أكثر وضوحا، ومن ثم تأثيرا في الأطر التربوية والتنظيمية للحركة الإسلامية التي لم تكن بحاجة للتعب كثيرا من أجل تنفيذ "توجيهات" يكن الحركية.
في السبعينيات من القرن الفائت وفي فورة الصحوة الإسلامية كان الأستاذ فتحي يكن ينشر في مجلة الدعوة -لسان حال الإخوان المسلمين في مصر- سلسلة متصلة من المقالات تحمل عنوان (ماذا يعني انتمائي للإسلام)، وطبعت بعد ذلك مرات عديدة في كتاب يحمل العنوان نفسه، وكان له أثر أراه سلبيا على الحركة ما زالت تحتاج إلى عقود أخرى حتى تمحوه وتتعافى منه.
فقد كان هذا الكتاب تحديدا من أكثر ما أنتجته أدبيات الحركة الإسلامية وضوحا في نزعتها للتوحد مع الإسلام، وعدم التمييز بين الإسلام كدين وبين رؤيتها الخاصة واجتهادها البشري في فهمه، فوفق ما كتبه الأستاذ يكن لم يكن هناك فارق بين "ماذا يعني انتمائي للإسلام"، و"ماذا يعني انتمائي للإخوان"!.
كان الأستاذ فتحي يكن قاسيا في موقفه ليس من خصوم الحركة فقط، بل ومن المختلفين معها أو حتى داخلها، كان ينظر للخلاف مع الحركة كما لو كان خلافا مع الإسلام نفسه، ومن ثم فقد كان مسئولا بكتاباته إلى حد كبير عن ضيق صدر الحركة الإسلامية تجاه الاختلاف والتعددية عموما.
وكان كتابه: (المتساقطون على طريق الدعوة) يمتلئ قسوة وعنفا فكريا مع كل من يختلف مع الحركة، وينضح سخرية وشماتة ممن انتهت علاقتهم بالحركة حتى ولو بسبب خلافات مشروعة أو اختلافات في وجهات النظر.
لم يكن الأستاذ فتحي يؤمن بالاختلاف في الحركة أو حولها، كانت الحركة عنده شعب الله المختار من المسلمين، وكان يصف كل من يختلف معها بــ"المتساقطون"!.
خروجه من الحركة الإسلامية
ورغم أنه عمّر طويلا في قيادة الحركة في لبنان –الجماعة الإسلامية- إلا أنه لم يمكث حتى غادرها إثر خلافات تنظيمية، وقد قيل الكثير في أسباب ذلك الخلاف، وكان المسكوت عنه أكثر، ربما بسبب طبيعة الجماعة التي حفظت له سبقه في العمل الإسلامي، وفضله عليها في فترة قيادته، كما أحسن الرجل حين أغلق الباب على خلافات التنظيم، وحصر النقاش في خلافات المشروع والوجهة والأفكار، فسدّ باب شر عليه وعلى الجماعة.
لكن المؤكد فيما وصلني من أسباب الخلاف أنه كان يتعلق –على الأقل في بدايته- بموقفه من الشورى التي كان يراها غير ملزمة، ومن ثم فلا يلتزم بها، خاصة أنه ربما كان يرى نفسه أكبر من الشورى، أو أن الجماعة ترتبط به وبفكره بحكم ما أبلاه وما قام به تاريخيا في بنائها وقيادتها.
غادر فتحي يكن الجماعة الإسلامية، ولكنه لم يغادر منهجه في التعامل مع الخصوم والمختلفين، والذي يقوم على تجريدهم من أي أساس للشرعية، وجاء اغتيال رفيق الحريري وما خلفه من اصطفاف طائفي وسياسي جعل من لبنان ميدانا واسعا لصراع محاور إقليمية ودولية ليعطي لفتحي يكن المبرر، ويؤكد له شرعية خلافه مع الجماعة التي صار منذ تركه موقع المسئولية فيها عام 1993 لا يتموقع سياسيا إلا في الخط المخالف لها.
كانت البداية بمواجهات صغيرة تعكس توتر الأعصاب الذي لا يخلو منه خارج عن تنظيمه، فكانت مواقف من مثل ترشحه أو دعمه لمرشحين ينافسون الجماعة في الانتخابات البرلمانية، مثلما فعل حين قرّرت الجماعة مطلع عام 2005 مقاطعة الانتخابات، فأعلن حرمة ذلك شرعا، ودعم ترشيح أحد أقربائه بطرابلس.
لكن جاء الاصطفاف اللبناني بعد اغتيال الحريري، وظهور ما صار يعرف بمحوري الاعتدال والمقاومة كمحطة فاصلة قطع فيها فتحي يكن مع الجماعة الإسلامية، التي وجدت نفسها مضطرة للعودة إلى الحاضنة السنية التي عانت إحساسا عميقا بالفقد واليتم، بل والاستهداف بعد اغتيال أبرز زعمائها، في حين ألقى يكن بثقله وتاريخه في المحور المضاد مؤسسا لجبهة العمل الإسلامي (مايو 2006) التي كان يرى فيها تأكيدا على استمرار الحركة الإسلامية، بل والطائفة السنية في قلب ما رأى أنه "المشروع المقاوم"، وقد كانت الجماعة الإسلامية السنية أول من افتتحه في السبعينيات.
الانحياز لمشروع "المقاومة"
ربما كان فتحي يكن وهو يغادر الجماعة الإسلامية تنظيما ومشروعا، منتقلا للضفة الأخرى، مدفوعا بالرغبة في الانحياز لمشروع "المقاومة" ومحور "الممانعة"، ومسكونا بهمّ الحفاظ على وحدة الأمة التي كانت في مواجهة انقسام طائفي غير مسبوق، وربما يصدق عليه ما اتهمه به خصومه من أنه يلقي بتاريخه وبمصلحة العمل الإسلامي السني، بل وبالطائفة السنية كورقة في يد التحالف السوري الإيراني؛ لكنه وفي كل الأحوال كان قد انتقل إلى الهامش، وابتعد كثيرا عن الحركة الإسلامية التي ساهم في إنشائها ورعاها حتى استقام عودها، كما كان قد فقد كثيرا من تأثيره في الفكر الحركي خاصة في مدرسة الإخوان المسلمين.
لم يحتفظ فتحي يكن كثيرا بوهج حضوره بعد أن غادر الحركة الإسلامية، وسرعان ما ضاع صوته في عجيج الاستقطاب الطائفي، فغطت الطائفية على صوت صلاة الجمعة الشهيرة التي دعا إليها وأمّ فيها السنة والشيعة، وجاءت غزوة حزب الله لبيروت السنية لتجعل من جبهة العمل الإسلامي التي أسسها مجرد ديكور سني لتحالف شيعي علوي ( إيراني سني) في نظر الطائفة السنية التي تمثل الجماعة الإسلامية أبرز تنظيماتها الحركية.
تراجع اهتمام فتحي يكن بالحركة والسياسة في نهايات حياته، وتفرغ للتعليم وهو الذي حصل علي الدكتوراه في اللغة العربية والدراسات الإسلامية، وكان جل اهتمامه منصبا على الجامعة الإسلامية الخاصة (جامعة الجنان في طرابلس) التي أسسها وزوجته الداعية الأستاذة منى حداد يكن، وهي ابنة خالته، ومن القليلات بين نساء الحركة اللاتي عرفن بجهدهن الفكري والدعوي، وله منها أربعة بنات وولد وتسعة عشر حفيدا.
قبل ثلاثة أعوام كتبت منتقدا الرجل فكره الحركي وتحولاته السياسية، وفي نوفمبر الماضي (2008) كنت في زيارة لطرابلس وهيأ لنا أحد تلامذته موعدا للقاء، كانت مفاجأة لي أن الرجل رحب باللقاء على غير ما كنت أتوقعه، ولكن سرعان ما اعتذر عن اللقاء لأسباب لم يوضحها، وإن أرجعها بعضهم لما كتبت.
ما لفت نظري وقتها أن الرجل الذي غادر جماعته وصار في موقع أقرب للخصم ظل لا يثق إلا في شبابها، كان جل مساعديه من أبناء الجماعة الإسلامية، ولم يكن يختار حرّاسه الشخصيين إلا منهم، وحتى الذين اعتمد عليهم في بناء الجامعة وتسييرها كان عدد منهم من أبناء الجماعة الإسلامية.. وقتها قررت أن أسجل للرجل أنه كان واعيا بحدود الاختلاف، وأنه كان قادرا على أن يتجاوز عثرات منهجه الحركي الذي لا يبعد كثيرا عن تقسيمة الفسطاطين، كما رسمها أسامة بن لادن.. وها أنا أسجل ذلك في هذه السطور.. رحم الله فتحي يكن وغفر له.
باحث في الحركات الإسلامية