الثبات على المبدأ عند الإخوان
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد..
فإنَّ من سنن الله المحكمة وقوانينهِ الماضية؛ أن تكون نتيجةُ التدافع بين الحق والباطل نصرًا مؤزَّرًا للحق وأهله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم: من الآية 47)، وإذا كان ادعاءُ الإيمان سهلاً على كل أحدٍ؛ فقد اقتضتْ حكمتُه سبحانه أن يجعلَ هذا التدافعَ ابتلاءً يَمِيزُ به الخبيثَ من الطيب، ويكشفُ به الثابتَ على المبدأ من المراوغ المتلوِّن الذي لا يثبت أمام الفتنة ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 31)، وشتان بين المجاهد الصابر لحكم الله الثابت على الحق، وبين فئة من الأدعياء.
رَضُوا بالدنيا وابْتُلُوا بحظوظِهم وخاضوا بحارَ الجِدِّ دعوى فما ابْتَلُّوا
ومن هنا كان الثباتُ على المبدأ والصبرُ على الفتنة؛ من أهم سمات المؤمنين الصادقين والدعاة المخلصين؛ ولذلك كان من أهم مبادئ الإخوان المسلمين: الثباتُ على المبدأ، والوفاءُ بالعهد، مع اعتقاد أن أقدس المبادئ هو "الدين".
الثبات.. ركنٌ من أركان البيعة عند الإخوان المسلمين
قال الإمام حسن البنا رحمه الله: "وأريد بالثبات: أن يظل الأخُ عاملاً مجاهدًا في سبيل غايته؛ مهما بعدت المدة، وتطاولت السنوات والأعوام؛ حتى يلقى الله على ذلك، وقد فاز بإحدى الحسنيين، فإما الغاية، وإما الشهادة في النهاية ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23)﴾ (الأحزاب)، والوقت عندنا جزءٌ من العلاج، والطريقُ طويلةُ المدى، بعيدةُ المراحل، كثيرةُ العقبات، ولكنها وَحْدَها التي تؤدي إلى المقصود مع عظيم الأجر وجميل المثوبة".
إنه الفهم الدقيق لحقيقة الرسالة التي نؤمن بها، وندعو إليها، ولطبيعة الطريق الذي أسعدنا الله بالسير فيه خلف نبيه صلى الله عليه وسلم.
أسبابُ الثبات عند الإخوان ومصدرُه
يُوقن الأخُ المسلمُ بقِصَر عمر الدنيا بالنسبةِ إلى حياةِ الخلود في الآخرة، ويدرك تمامًا أنه استُخْلِف في الأرض للابتلاء ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2)﴾ (الإنسان)، ويُوقن بأن أشدَّ الناس بلاءً في الحياة الدنيا هم رسلُ الله وأنبياؤه، فلا يطمع أن يكون خيرًا منهم، ويثق تمامًا بقوله تعالى: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22)﴾ (الحديد)، ويوقن أنَّ من صفته تعالى أنه يُقَدِّر ويلطف، ويبتلي ويُخَفِّف ﴿إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ العَلِيمُ الحَكِيمُ﴾ (يوسف: من الآية 100).
ويدرك الأخُ المسلم كذلك أنَّ الابتلاءاتِ تصقل الإيمان، وتُذهب صدأ القلوب، كمثل قطعة الذهب تدخل النار فيَذْهبُ خَبَثُها ويَبْقَى طَيِّبُها، ويؤمن إيمانًا لا يتزعزع بأن ﴿مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)﴾ (الطلاق).
ويُوقن الأخ المسلم كذلك بأن مصائبَ الدنيا تهون، أما مصيبةُ الدين فخسارةٌ لا تُعَوَّض، وقد تعلَّم الإخوان من نبيهم صلى الله عليه وسلم أن يقولوا: "اللَّهُمَّ لاَ تَجْعَلْ مُصِيبَتَنَا فِي دِينِنَا" (حسَّنه الترمذي)، وقدوتُهم في ذلك نبيُّنا محمدٌ، نبيهم صلى الله عليه وسلم الذي رفض أية مساومة على الحق الذي جاء به، وسيدنا يوسف الذي خُيِّر بين السجن وبين الحرام فـ﴿قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ (يوسف: من الآية 33).
والأخ المسلم يستشعر حلاوةَ الثواب على الصبر والثبات، فتهون عليه مرارة البلاء، إذ يوقن أنه "مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلاَّ كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ" (متفق عليه).
ثباتنا أحد أسرار قوتنا
أيها الإخوان!! إنَّ إيمانَنا برسالتِنا رسالةِ الحق والخير والنور، وثباتَنا على مبادئِنا المستمدةِ من دينِنا دينِ الحق، وتمسّكَنا بمنهجِنا وطريقِنا الذي رضيَه اللهُ لنا؛ كل ذلك هو الذي يعطينا القوةَ أمامَ خصومِ دعوتِنا، فلا نكوصَ ولا تذبذبَ ولا زعزعةَ؛ بل شموخ وثبات، فدعوتنا الطيبة كالشجرة الطيبة ﴿أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ﴾ (إبراهيم: من الآية 24)، جذورُها لا تزداد على المكائد إلا ثباتًا ورسوخًا، وساقُها لا تزداد على الابتلاءات إلا قوةً وسُمُوقًا، وأغصانُها لا تزداد على كثرة الرمي إلا إنباتًا وإثمارًا، فهي ﴿تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا﴾ (إبراهيم: من الآية 25).
لقد تعرَّضتْ دعوتُنا- شأنَ الدعوات الصادقة على مدار التاريخ- لألوانٍ من الابتلاء، وأفانينَ من الكيد، وموجاتٍ متواصلةٍ من التضييق والبطش، وتكالبتْ عليها الخصوماتُ من الداخل والخارج، من أعداءِ الإسلام، ومن الأنظمةِ المستبدَّةِ، ومن الخصومِ الذين هالهم إقبالُ الشباب على دعوة الحق وانفتاحُ القلوب لها، فنسجوا الأكاذيبَ، وأشاعوا الإفكَ والزورَ حول الدعوة وتاريخها ورجالها، وأحيانًا من بعض أبنائها الذين مالتْ بهم بعضُ أغراضهم عن جادَّةِ الصواب، فنَسُوْا سوابقَ الأُخوَّةِ والإحسان، وقَبِلوا- بوعيٍ أو بغير وعيٍ- أن يكونوا أداةً بيد بعض الكارهين للدعوة والحاقدين عليها، وهم أدرى الناس بنزاهةِ الدعوةِ وسلامةِ القصدِ وصحةِ الطريق.
وفي مواجهة هذا كله استمسك الإخوانُ بدعوتهم، وأعرضوا عن الدخول في خصوماتٍ ليستْ من شأنهم، واستمروا في دعوتهم، واجتهدوا في تحقيق أهدافهم، وثبتوا على مبادئهم، واستعانوا بالله ربهم، وأيقنوا بنصر الله إياهم، فمضت المحن وهم صامدون، وانقضت الفتن وهم بالحق مستمسكون، وهم يرددون:
كفايـةُ اللـه خيـرٌ من تَوَقِّينَا وَعَادةُ الله في الماضين تكفينا
كاد الأعادي فلا والله ما تركوا قولاً وفعـلاً وتلقينًا وتهجيـنا
ولم نَزِدْ نحن في سرٍّ وفي علنٍ على مقالتـنا يا ربَّـنا اكفيـنا
فكـان ذاك، ورَدَّ اللهُ حاسـدَنا بغيظِـه لم يَنَـلْ تقديرَه فيـنا
فاستمروا أيها الإخوان على منهاجكم ثابتين، وسيروا في خطتكم موفَّقين، ولا تلتفتوا لمحاولات الكيد والدس لصرفكم عن طريقكم، واثبتوا واصبروا وصابروا ورابطوا حتى يبلغ الله أمره، ويُظهِرَ دينه ﴿وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا﴾ (الإسراء: من الآية 51). والله معكم ولن يتركم أعمالكم. والله أكبر ولله الحمد.
محمد مهدي عاكف
المرشد العام للإخوان المسلمي