بسم الله الرحمن الرحيم
الشيخ مصطفى بلمهدي
مثل الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله صورة مميزة للعمل في سبيل نشر
الإسلام والدعوة إليه وتصحيح المفاهيم والتقريب بين أبناء وشباب الجزائر
وربطهم بالقيم الإسلامية وتشكيل ألوية العمل وتنظيمه. وظل على هذه الحال
إلى أن توسعت رقعة العمل الإسلامي وأصبح له التأثير المباشر على المنظومة
الوطنية بأكملها. وقد كان الشيخ بوسليماني صاحب فكرة ترتبط برسالة وجماعة
وتقوم على مبادئ واضحة ترفض العنف وتدين الإحتكام إلى الإكراه، بل هي دعوة
للإقناع والحوار والكلمة الطيبة والإحسان إلى الآخرين حتى وإن خالفونا.
وعندما عصفت بالجزائر عاصفة الأزمة، كانت الحركة الإسلامية في قلب العاصفة
وكان للشيخ بوسليماني دورا واضحا في حماية الحركة الإسلامية من الانزلاق،
حيث كان الشيخ بوسليماني حاضرا في ثلاث مفاصل أساسية من هيكل الأحداث:
1- مفصل التميز في حركة واضحة الأهداف، الوسائل والأساليب، عملت على
حماية الشباب من الانزلاق وتوفير المحضن الحقيقي للعمل الأصيل، وقد كان
لنشاط الشيخ بوسليماني عبر الوطن الدور الكبير في تصحيح صورة الوضع وتوضيح
الرؤية الإسلامية الحقيقية للتغيير من جهة، ولرؤية الإسلام للأخطاء
الحاصلة في الواقع باسم الإسلام.
2- مفصل رفض العنف ومعارضة جرّ الصحوة الإسلامية والحركة الإسلامية نحو
العمل المسلح الذي كانت بوادره تظهر مرة تلو الأخرى في المجتمع، وكان أبرز
مظهر لها هي مجموعة "بويعلي"، ثم انزلاق ما بعد إلغاء المسار الانتخابي.
وقد كان للشيخ بوسليماني دور هام في منع العديد من شباب الجزائر العائدين
من أفغانستان من الالتحاق بالعملي المسلح الذي كان يعمل بقوة على استدراج
هؤلاء الشباب نحو تنظيمات الخروج عن المجتمع وتكفيره، وحمل السلاح عليه،
سلطة وشعبا، بدعوى استرداد الحق أو المغالبة على الحكم أو غيرها.
3- مفصل الوحدة الإسلامية، حيث كان الشيخ بوسليماني رجل وحدة وتوحيد
للجهد الإسلامي، عمل على رأب الصدوع وحل المشكلات، كما كان عاملا أساسيا
في تنشيط الرابطة التي كانت فضاء للتنسيق في الجهود بين الحركات ألإسلامية
وتوحيد رؤاها وجمع كلمتها ومواقفها تجاه الأوضاع والأحداث بما يخدم مصلحة
المشروع الإسلامي ويؤسس لمستقبل أفضل للحركة الإسلامية في الجزائر.
الشيخ بوسليماني رمز الثبات على المبدأ:1/ كانت الجزائر حبلى بالأحداث منذ بداية مرحلة تأسيس العمل الإسلامي
في الجزائر. وكان الشيخ بوسليماني قد خطّ في الحركة الإسلامية رفقة الشيخ
محفوظ خطا واضحا يقوم على أن الجزائر جزء من الأمة الإسلامية وأن أي
محاولة لفصل الجزائر عن امتدادها في الأمة العربية والإسلامية هو ضرب من
المؤامرة على ميراث الشهداء وتاريخ الجزائر. ولذلك كرّس رحمه الله حياته
لنشر القيم الإسلامية في مواجهة حالات الارتداد الفكري والسياسي عن خط أول
نوفمبر، ودفع إزاء ذلك ثمنا باهضا في السجن والحرمان من الحقوق الأساسية
للمواطن.
2/ كان جزء من أعمال الشيخ بوسليماني خلال فترة 1976م معارضة اقتصادية
لمبدأ مصادرة الحق في الملكية وعملية التأميم لممتلكات الناس والحجر
عليها، حيث كان يعتبرها مخالفة لتعاليم الإسلام. وأن الثبات على المبدأ
الإسلامي لا يتعلق فقط بقضايا الفكر والثقافة ولكن أيضا بقضايا الاقتصاد
والمال والملكية وهي كلها قضايا من صميم المبدأ الإسلامي يمكن أن يسكت
عنها أصحابها بفعل القهر والإكراه ولكن الشيخ محمد بوسليماني لم يسكت
عليها لأنها تعتبر ممن صميم الواجب على القادة والعلماء، وإذا لم يثبتوا
عليها لا يجد الناس من يثبتهم على أمور دينهم بالرؤية الشاملة والمتكاملة
للإسلام.
3/ ظهر خط العنف خلال السنوات الأخيرة لعقد السبعينيات وبدأ يتحول
تدريجيا إلى حالة جادة من خلال ظهور اللجوء إلى السلاح وبداية بروز دعوة
إلى الخروج عن السلطة وحمل السلاح ضدها، ولكن الشيخ محمد بوسليماني الذي
كان ضحية ظلم السلطة وهو يخرج من السجن حديثا عبر عن عمق الثبات على
المبدأ حين اعتبر أن الابتلاء والمحن لا يمكن لها أن تخرجنا عن طريقنا
ومبادئنا أو عن أسلوبنا ووسيلتنا في الدعوة والعمل الإسلامي والتغيير
السلمي ولذلك فإنه عندما اتصل به خلال الأيام الأولى من خروجه من السجن
مصطفى بويعلي ومن كان معه معتبرين أنهم كانوا يقومون بهذا العمل بعد سجن
الشيوخ ويعرضون على الشيخ بوسليماني قيادتهم في العمل المسلح ضد السلطة
لأنهم يعتبرونه الأهل للقيادة بعلمه وتجرده وحكمته. لكن الشيخ بوسليماني
بثباته على المبدأ الصحيح أنكر عليهم الخروج ودعاهم إلى الدعوة والعمل
الصالح والابتعاد عن مسببات الفتن في المجتمع الآمن والتحلي بالصبر على
الظلم وبذلك عبر رحمه الله عن ثبات كبير على مبدأ الدعوة إلى الله بالتي
هي أحسن ومن خلال ثمار القول القرآني (وقولوا للناس حسنا).
4/ في حياة الشيخ محمد بوسليماني رحمه الله ظهر أيضا فكر إسلامي ودعوات
إسلامية تدعو إلى جزأرة العمل الإسلامي وضرورة انكفاء العاملين على رؤى
قطرية و ساقوا لذلك المبررات العديدة فكرا وسلوكا وحركة وبدأ الشباب
الإسلامي يشهد حالة من الانقسام الفكري ويناقش قضايا أصبحت تنخر في عمق
البنى الفكرية للصحوة. وكان الشيخ أبو سليماني رحمه الله من أهم القادة
الكبار الذين اعتبروا أن أحد أسباب تخلف الأمة الإسلامية هو عملية إحياء
القوميات والتعصب لها وتغليب الرؤى القطرية على النظرة العميقة لوحدة
الأمة الإسلامية، خصوصا بعد ظهور التتريك الذي كان عرابه مصطفى أتاتورك
والذي أدى إلى انفصام عرى الخلافة الإسلامية وإن أية دعوات إلى القطرية
ستتبعها دعوات أخرى إلى تجزئة الفكرة القطرية في حد ذاتها, ولذلك حرص رحمه
الله على العالمية كمبدأ أساس. وقاد حملة دعوية كبيرة وسط الشباب حول
الرؤية الإستراتيجية للحركة الإسلامية في التعامل مع التطور الحاصل في
العالم والحملة الكبيرة ضد المشروع الإسلامي العالمي في مرحلة ما بعد
الاستعمار التي تعتبر من أهم مراحل إعادة صياغة العقل الإسلامي وصياغة
الحركة الإسلامية في مسارها نحو تحقيق الأهداف الكبرى في التمكين للمشروع
الإسلامي وتقوم هذه الصياغة أساسا على طبيعة الرؤية التي تنطلق منها
الحركة الإسلامية للثبات على مبدأ عالمية هذه الدعوة وهذا المشروع بكل
أبعاد هذه العالمية على طبيعة الحركة الإسلامية. 5/ عندما اختطف الشيخ
محمد بوسليماني سمح لهم مختطفوه بالمكالمة الهاتفية مع إخوانه وعندما
سألوه عن حاله قال لهم "إن الحمد يكون أحيانا مع الشكر وأحيانا مع الصبر"
ثم جادل من اختطفوه جدالا واسعا حول الخط الذي ساروا عليه ودعاهم إلى
المصالحة مع الله ومع أمتهم ومراجعة أنفسهم ووضعوه يرحمه الله بين ضغطين
أساسين خيار أن يقتلوه وخيار أن يكون أميرا لهم ويفتيهم في شرعية ما
يفعلون ولكنه يرحمه الله ضرب مثلا آخر في الثبات على المبدأ حين رفض هذا
وذاك وكان بإمكانه:
-أن يقول لنفسه أقودهم ثم أصحح أخطائهم. أو: 2- كان بإمكانه أن يقول
لنفسه أيضا أخذ برخصة من أجل دفع الضرر. ولكنه آثر التضحية بالذات من أجل
الثبات على المبدأ والعزيمة على طريق التضحية.
6/ التضحية وقود المصالحة، لقد دخلت الجزائر في مصالحة وطنية كبيرة بعد
الأزمة، واستطاعت بتضافر جهود جميع المخلصين أن تحقق بعد الوئام المدني
المصالحة الوطنية وتشيع السلم ثقافة وقانونا وواقعا, ولم تكن المصالحة
وليدة صدفة أو حالة عارضة وإنما هي نتيجة لشيئين أساسيين: الأول: هو
التضحية الكبيرة لأمثال الشيخ بوسليماني, فمن أراد النجاح بدون تضحية فهو
مخطئ, ومن أراد أن يخط للإستقرار طريقا دائما فعليه بالثبات على المبدأ
والتضحية من أجله. الثاني: وهو أن منهج العلاج للأزمة والحوار الواسع
والتكفل الفكري حتى بالمخطئين كل ذلك يؤسس للمصالحة والإستقرار وحل
الأزمات والخروج من الانزلاقات نحو بر الأمان، وقد كان حوار الشيخ
بوسليماني مع الجميع حتى من اختطفه صورة واضحة لذلك. تلك نقاط أساسية من
حياة الشيخ بوسلمياني في الثبات على المبدأ وهي نموذج يعكس شخصيته في هذا
الموضوع ويعطينا عناوين للنقاش والقراءة العميقة لهذا الرجل.
(*)ألقيت في ملتقى الشيخ الشهيد محمد بوسليماني الدولي (الجزائر يومي:29-30 صفر 1431هـ الموافق 13-14 فبراير 2010م).