08/06/2009
في ذكرى الراحلين عنا نحاول دائماً أن نستحضر أمامنا المواقف، والكلمات، والأعمال، واليوم نقف وقفة تذكر أمام شخصية تركت بصماتها في الجزائر وخارجها،
فلم يكن الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله تعالى من أولئك الناس الذين عاشوا لأنفسهم وذواتهم، بل عاش لوطنه وفكرته وأمته، ولحكمة ما تعارف الأولون للتأريخ للعظماء والعلماء بالوفاة لا بالولادة، فيقولون فلان المتوفي سنة كذا، لإنه يكون قد عرف للجميع بعد ترك بصماته ونضاله وتضحياته وسمته وخلقه وحبه للناس وتقديم الخير لهم.
فالكتابة عنه اليوم تعتبر وفاء لهذا الرجل، ووفاء للدعوة، وعرفاناً للجميل لمن ضحوا بجهودهم وأوقاتهم من أجل صفاء الإسلام، والذود عنه في أحكلك الظروف التي مرت بها الأمة على العموم والجزائر على وجه الخصوص.
فهو صاحب التأصيل لسلمية الدعوة، وللمشاركة الإيجابية، وعدم ترك الكرسي الشاغر، وعدم الدخول في منطق المغالبة، والمؤسس للمصالحة بين أبناء الشعب الواحد، فالكل يتذكر مقولته الشهيرة رحمه الله "الجزائر حررها الجميع ويبنيها الجميع".
وهو صاحب الطريق الثالث (بين عنفين) الذي رسمه وقال عنه: "اخترنا السير في طريق لا يخرجنا من الملة، ولا يحرجنا أمام ذوي الألباب"، أصّل في دعوته للنهج التصالحي لا الصدامي، للحوار لا للعنف، لإن يحب بعضنا البعض لا للاحتراب الداخلي، لم يثنه عن ذلك تربص المتربصين، ولا خذلان المتخاذلين، ولا تشويش المشوشين، ولا حتى من كان يكيد له التهم جزافاً ويرميه بأبشع النعوت.
فقد استوعب الفكرة، وغاص في أعماقها، وعرف الطريق، واختبر النفوس، فتعامل معها معاملة الطبيب الماهر، عُرف بدعوته بالحسنى لا بأساليب الضغط والإكراه، ناضل من أجل السلم، ودافع من أجل أن لا يوصم الإسلام بالعنف والإرهاب في زمن تشويه صورة صفاء الإسلام، دعا للتغيير الهادىء المبني على: الواقعية التي تراعي خصوصيات المجتمع، والشمولية التي تشمل كل جوانب الحياة، والتجديد المستند على الاجتهاد المستمر.
عندما سلك طريقه الدعوي والسياسي أثناء العشرية السوداء التي مرت بها الجزائر قال رحمه الله تعالى: لقد كان اختيارنا مبنياً على قناعات أربع:
· العمل على تغيير المنكر بالمعروف ودفع الضرر بالحسنى واجب شرعي ومسؤولية أخلاقية
· سياسة الغياب تحقق غرض القوى اللائكية التغريبية والتيار الاستئصالي
· سياسة الغياب الطوعي والمتاح قائم، يلغي فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كما يلغي قاعدة أن المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم.
· العمل الوطني الصرف يجب أن يقوم في الظرف المناسب إذ أن الوطن الذي يتعرض للويلات إذا لم يتحرك المخلصون فيه لأداء الواجب فإنه سيفوتهم فضل السبق.
لقد امتاز الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله بوضوح الرؤية، والحزم في اتخاذ المواقف خاصة ما تعلق منها بالدماء، فلم يفوّت فرصة اتخاذ الموقف في مسألة ما حصل في الجزائر من عنف، كبعض الدعاة الذين ظلوا في قائمة الانتظار والاحتياط والدماء أمامهم تسيل، وهذا يذكرنا بمقولة عيسى عليه السلام: "كل ينفق مما عنده"، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه: "الفتنة إذا أقبلت عرفها الحكماء، وإذا أدبرت عرفها كل الناس".
إنه صاحب نظرية التغيير الهادئ الذي بنى للـ
1 الواقعية: التي تراعي خصوصيات المجتمع ومكوناته النفسية والفكرية والحضارية
2 الشمولية: حيث يشمل الإسلام كل جوانب حياتنا المادية، السياسية، الاقتصادية....
3 التجديد: أن نواجه الواقع بمناهج قائمة على الاجتهاد المستمر والإبداع المتواصل والحوار الحر
كان رحمه الله يوصي بأن، لا نربط التغيير بضرورة وصولنا للسلطة كحركة أو كأشخاص، ولكننا نرى أن تطبيق أفكارنا وتصوراتنا هو التغيير الحقيقي حتى وإن تم بدوننا، ثم يردف قائلاً: "إن هذا لا يعنى أننا ندّعى امتلاك الحقيقة المطلقة أو نزعم الكمال والعصمة، ولكنه يعني ببساطة أننا نؤمن بأننا حملة فكرة أصيلة معبرة عن أعماق شعبنا وتطلعاته وهمومه وآماله، رغم ما قد يشوبه من غموض أو تحريف ناتج أساساً عن سوء فهمنا".
لقد كان رحمه الله حاضر البديهة، لمن اختلط به، اشتهر بابتسامته لمن يلقاه فكم من صدقة أخذها معه، ففي الحديث تبسمك في وجه أخيك صدقة، امتلك احترام الناس من حوله، بسعة أفقه، فقد كان كثير المشورة يستشير إخوانه القريبين والبعيدين عند اتخاذ المواقف أو الدخول في شأن من شؤون السياسة أو الدعوة أو غيرها، لم يكن مستعجلاً في أمره، ولا ينحنى أمام الضغوط من حوله.
إن هذه الكلمات التي أكتبها عنه اليوم في ذكرى رحيله أوحى بها الموقف وجلاله، فهي له عرفاناً بالجميل، ولنا عظة وعبرة، نتقوى بها على مسيرنا في الطريق، متذكرين من صاحبناهم في هذا الطريق، حتى نلقاه الله غير مبدلين إن شاء الله تعالى.
إنني ما زلت أذكر حينما زرته مع بعض الأصدقاء في فرنسا في مشفاه قبل أسبوع من رحيله، حينما ودعناه فقال لنا بابتسامة المودع: "الحمد لله ما أجمل أن يشعر المرء أنه يرحل عن الدنيا صافي الفكر، نظيف اليد، عفيف اللسان".
فقد كان كذلك، صافي الفكر من شوائب الغلو والتطرف، نظيف اليد فلم تمتد لمال ولا لشخص، عفيف اللسان عن الناس، بل إنه نافح به عن الناس وعن الجزائر وقبل هذا وذاك عن الإسلام العظيم.
فهنيئاً للعبد المؤمن أن يذكر له الناس بعد موته صفات حميمة حميدة، ويذكروه بكل خير فيه، فقد علمنا من حديث رسولنا الكريم أن الراحل عن الدنيا ينقطع عمله إلا من ثلاث: علم ينتفع به، وولد صالح يدعو له، وصدقة جارية، فكم من علم ودعوة مستنيرة ورسالة صلاح تركها لنا هذا الرجل نستضىء بها اليوم في دروب طريقنا، وكم من إخوة له اعتبروه أباً لهم من صنيعه لهم فهم ما زالوا إلى اليوم يدعون له في صلواتهم ودعواتهم، وكم من صدقة جارية تركها من مؤسسات بناها وأجيالاً ما زالت تناضل بعده حتى اليوم لمواصلة المسير.