31/05/2009 عبد الله أبو حامد
حجم الخط: Decrease font Enlarge font
التغيير سمة الشخصية السّوية في أي فرد كان، والمنتمي لا يحقق الإيجابية في كيانه أو أمته إلا إذا لازمته هذه الصفة التي مبدؤها الوجدان ومنتهاها الميدان، وما عرفت الدّنيا أبدا رجالا لهم ذكر أو أبطالا لهم شكر، إلا بهذه الخاصية التي اتّسموا بها.
فالإنسان الذي لا يعتريه إحساس بمسؤولية التغيير، أو يكون له جهد يزيد الربانية ويزيل الكآبة ويصنع المهابة، فهو بجمال الحياة غير جدير، وبالمسؤولية التاريخية غير قمين!!
ولعلي لا أعدو درجة التذكير أولا بمناقب النبلاء في حضارتنا والعظماء في تاريخينا، سواء كانوا في عالم الفكر أو الفلسفة أو التربية أو الفن، فلم يسجل التاريخ أبدا مثوبة لمن كان مبدأه كما وصف الحطيئة أناسا:
دع المكارم لا ترحل لبغيتها****واقعد فأنت الطاعم الكاسي.
وما أكثر الرّكون في أيامنا هذه إلى طعم أو طعام الوظيفة، وما أشدّ الارتباط بكساء المسؤولية المزيفة وإن لم يفز أصحابها في الحقيقة سوى بألقاب من خشب وكراسي لا تستحق إلا العتب.
غير أنه كما كان يذكر شهيد الدعوة الرّبانية الشيخ محمد بوسليماني أن بلية الرّغبة في استكمال الفقرة الرّابعة والثلاثين (بكرسي المسؤولية) صار لها موطن في قومنا ولم تعد مجرد تهمة للحكام والسّلاطين!!!
مهمة التغيير لدى الفرد هي شعور مستمر نحو التحسين، أما ألفة الهناءة والدّعة والرّتابة فهي من طبع صنفين من البشر، إما أن يكون صاحبها مستبدا وهذا الأمر عالجه أحد زعماء النهضة عبد الرحمان الكواكبي في "طبائع الاستبداد"، وإما أن يكون مغفلا إذا سمع الحداء نام وليته قام!!! وإذا صعد المدرج أخذ بسكرات عذارى الهودج!!!
فهؤلاء قد أبلى في وصفهم البليغ من أتاه الله من الكلام جميل الصنيع أبو النّور _الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله_ حين قال إياكم والغيون الثلاث: الغيبة والغباء والغرور.
ولعل ذلك ما أشارت إليه الآية الكريمة في قوله تعالى: (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا) فذووا الأهواء لا يعرفون للتغيير سبيلا إلا على طريقة الرّوائي الجزائري "الصعود نحو الأسفل" وأصحاب الأمر الفرط والتصرفات السبهللى، والذي تستوي عندهم علياء الأمور مع سفاسفها، وذروتها مع أسفلها، هم من كان حضورهم مشهودا تاريخيا في كل نكبات الجزائر وأزماتها، وتاريخنا الحاضر والمعاصر لا ولن يحابي أحدا، سواء في مسار الحركة الوطنية أو الحركة الإسلامية.
مسار التغيير الذي هو من ثوابت المسلم الحق لا يمكن أن يكون مجرد نقطة تقاطع مرة واحدة في الحياة إنما هو همّ ملازم وإحساس دائم وليس نزوة هادم أو حمقة ناقم !!
التغيير مهمة دعوية المبادئ سداها والتضحية لحمتها
التغيير الذي نعنيه ليس عبثية على طريق "الفن للفن" ولا نمطية العصب المشاغبة على هامش الفاعلين. إن التغيير الذي يستمد معناه ومنطلقه من قول الله تعالى (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم) هو تغيير لا يبرح محورية الولاء الصحيح والوفاء الصريح، لأن التغيير الذي لا بوصلة له لا يعدو أن يكون من صنف متبعي الأهواء (واتبع هواه) كما أن التغيير المبتوت عن المنطلقات أو المعالم لا يغدو صاحبه أن يكون ذا عمل عشوائي من صنف (وكان أمره فرطا) وفي الحالتين غفلة قلبية نسأل الله العافية.
التغيير رسالة آمن بها أبو بكر الصديق رضي الله عنه فواجه المرتدين، وفهمتها المرأة الصادقة فأوقفت عمر الفاروق رضي الله عنه من على منبره بين الخطبتين، ومارسها علي رضي الله عنه أيام الفتنة الكبرى في صفّين!!!
التغيير شعور يصاحب الكبار فلا يهنئوا بالرضا عن أنفسهم وبعد كل تقويم للنفس ينطلقون إلى تغيير الواقع. وهؤلاء هم الذين يضحّون بنصيبهم الوافر من الحياة الدّنيا، أما صغار النّفوس فينطلقون في مهمة التغيير من خارج أنفسهم، فاتهام النفس عندهم باطل لا مجال للنّظر فيه، وشتّان بين من ينكر ذاته لخدمة الآخرين ومن يقدس ذاته لاكتساب الآخرين!!!
وقديما قال الشاعر المتنبي: وإذا كانت النفوس كبيرة ****تعبت في مرادها الأجسام
مهمة التغيير آمن بها الأئمة الأربعة وضربوا أروع الأمثلة حين لم تستهوهم لذة القرب من السلطان فيرضونه، كما لم تستبدهم نفوسهم فيعلنوا الحرب الدّموية عليه، وقد كان لهم في الولاء إتباع وفي الفقه والخطابة باع.
من هنا ينبغي أن تكون مهمة التغيير ناجحة مع من لهم نفسية الفضلاء موقع بين رذيلتين التهور والانتقام أو الجبن والاستسلام" وقد يرى البعض أن مهمة التغيير بهذا الوصف هي محط الرّضا من الجميع، من الصحيح والضليع، فمن كان مهمته التغيير وجد الترحيب وحسن التشهير، ولم يحتج لتوضيح ولا تبرير!!! غير أن ذلك من خطأ الطيبين البسطاء، فضريبة من يدافع على سلامة منهج التغيير، كأصحاب منهج الاعتدال: طرف يطلب منه الوصول إلى الكمال، وآخر يرى فيه إنسانا لا يصلح إلا للتنفيذ والامتثال !!! ولعل الرّافعي رحمه الله قد أصاب حين رأى أن مقياس الشخصية السّوية أن تكون بين مادح وقادح، والحليم من استفاد من الناقدين ولم يغتر بالمادحين!!!
مراحل التغيير مهام وصعوبات
قد نقتنع جميعنا بأن واقعنا يحتاج إلى تغيير متعدد الجوانب كما نقتنع كلنا أو معظمنا أن هذه المهمة تتطلب جملة من الأعمال والآليات والوسائل.
لكن بمجرد أن نطرق باب العمل في الخطوة الأولى من التغيير نجد وكأن القناعات بدأت تتغير فإذا نظرنا إلى المقدمين وجدناهم أقلّ مما كانوا وحين نسأل ماذا حدث في فهم الآخرين تجد التبريرات تتعدد، وحتى اللاتبرير يجد له مكانا (موافق ومقتنع ولكن متفرج) وأمام هذا يصلح منهج ابن تيمية رحمه الله حين خرج لمواجهة جيش الخصوم بمفرده وحين خاطبه أحدهم أتواجه وحدك؟ قال: وهؤلاء من خلفي، وما كان يرى خلفه من اتباع سوى العزم والإرادة!! هنا عزيمة صاحب التغيير إذا تأكدت الصوابية في المنطلق والإخلاص في المقصد. فالجرأة تشجع المتفرج المتثاقل وتلق الرّعب في الخصم أو العدو، سواء أكان فردا أم جمعا أم كيانا!!!
وهنا نجد أنفسنا أمام نتيجة مفادها أن الانتقال من مرحلة القناعة النظرية إلى القناعة من خلال العمل الميداني تحتاج إلى ميزات نفسية تضيف للإيمان مقياس العمل، لذلك ربنا سبحانه وتعالى ما ذكر الإيمان الذي له مقتضيات الميدان إلا وأردفه بالعمل، بخلاف موضعين فقط أراد بها التصديق والتعبير عن القناعة فقط. لذلك فالتغيير كقناعة عقلية فيه شيء من الصعوبة، لكن كاستعداد نفسي صعوبة بعينها.
ولعل هذا الجانب يجعلنا نسجل وقفة قبل نهاية هذا المقال عند تعقيدات العامل النفسي وهنا لا بد من الوقوف عند بعض الفهوم التي تنبني على هذه الحقيقة:
1ـ رغم أن العصر الحديث وفر أجواء مناسبة للاجتماع الإنساني من أهمها العمل المؤسسي والولاء للأفكار لا للأشخاص، لكن هناك حقيقة تظل ماثلة ذكرها الأستاذ مالك بن نبي رحمه الله وهي أن من علامات الضعف أو التخلف في المجتمعات أو الدول أو الحركات ميزة ثقافية تتمثل في الارتباط بالأشخاص والأسوأ منه الارتباط بالأشياء "الشيئية" وهي أدنى درجة في السلم الحضاري الذي يتميز بأرقى درجة وهي الدرجة الثالثة "الارتباط بالأفكار"، ولذلك كثير من أبناء الدعوة رغم تفوقهم النظري على التجريد والمقاصدية والولاء للمنهج إلا أن الشعور النفسي أحيانا يكون ملتصقا بالشيئية أو الشخصانية كما أسماها الشيخ محفوظ نحناح رحمه الله، أو الجراثيم النفسية كما يسميها الشيخ الشهيد محمد بوسليماني رحمه الله تعالى.
فصار الارتباط بالأشخاص مكتسبي الألقاب أقرب ما يعيد إلى الذاكرة طقوس الطرائق الدروشية بإخراج جديد على طريقة الرقيا العابرة للقارات عبر الهواتف والانترنت والفضائيات.
ووفق هذا السلوك صارت الوظائف والمناصب والغنائم(!) مكاسب دعوية كيف يمكن التفريط فيها!!!
2ـ إن منهج المخالطة مرتبط بالصبر، ولعل هذا المعنى كان يؤخذ على غير تمامه، فالتجربة بينت لنا أن الصبر عبر المخالطة في سياق الدعاة الذين يشاركون في الحكم والمسؤولية، معناه أن المنهج والسمت والسلوك أولى أن ينتصر لها على حساب المكاسب في حالة أي طارئ يحتم المقارنة. أما أن يصير المنصب أغلى من أي ضياع للقيم الدعوية والحركية فهذه كارثة تجعل من الأولوية بمكان تعميق فهم المخالطة والصبر. ولعل سيد قطب رحمه الله تعالى كان يدرك هذا البعد في مسار التغيير حين طالب بضرورة المفاصلة الشعورية، والحقيقة التي ندركها اليوم هي أن إخلاص المشاعر ضمان لسلامة الشعائر.
3ـ ومن عوائق التغيير في الميدان أن صعوبة الخطوة الأولى تكمن في الخوف من مفارقة المألوف، لكن الخطوة الثانية فصعوبتها الرغبة والإصرار على إنجاز تغيير فيه ضمان بعدم الاحتياج إلى تغيير مستقبلي!! وهنا ينبغي أن ندرك القيمة التربوية لاستمرارية التغيير كسنة إلهية في الخلق إذ لابد من الشعور بمسؤولية التغيير كلما دعت الضرورة مواكبة لمسار الإصلاح والتزاما لمنهج الأخلاق وتعايشا مع كل حراك.
كما يظل الطواف حول الكعبة مستمرا يظل التغيير في عالم النفس وفي المجتمع مستمرا، مداره الحق مصداقا لقوله تعالى (إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله).
فبالفهم نرتقي وعلى المحبة نلتقي.