الجزء غير الأخير
مصطفى يوسف اللداويمن الذي قتل الشهيد محمود المبحوح سؤالٌ مشروع،
لا بد من توجيهه وإثارته في كل الأوساط المعنية، رغم أن الشهيد المبحوح
ليس أول المستهدفين بالاغتيال، وبالتأكيد لن يكون آخرهم، وإسرائيل هي
المتهم الوحيد بقتله وغيره من الشهداء الذين تم تصفيتهم في أوروبا وفي بعض
الدول العربية، فليس إلا إسرائيل التي تقوم بهذه الأعمال الإجرامية، فهي
التي تخطط وتقرر، وتنفذ بيدها أحياناً، ولكنها قد تكلف آخرين غيرها
بالتنفيذ، وهي بالتأكيد تسخر العديد من الأجهزة الأمنية العربية والدولية
لخدمة أهدافها، وتقديم المعلومات لها، فضلاً عن استفادتها البالغة من
التقنيات العلمية الهائلة التي تعمل في مجالات التنصت والمتابعة
والمراقبة، ولكن حادثة مقتل المبحوح يجب أن تستوقف كل المسؤولين عن الأمن،
سواء في دولة الإمارات العربية المتحدة، أو داخل حركة حماس نفسها، ولدى
ذوي المبحوح ومحبيه، ولا ينبغي أن تمر حادثة الاغتيال دون تحقيقٍ داخلي
وخارجي، ودون سؤال عام ومعلن، كيف تم الوصول إلى الشهيد محمود المبحوح،
خاصةً إذا سلمنا أنه يعتمد على نفسه دائماً في كل تحركاته وسفرياته، وأنه
لا يستعين بأحدٍ في ترتيب إجراءاته الخاصة، وهو يموه في وجهة سفره، وقد
سبق له السفر مئات المرات، وطاف بلاداً عدة، ودخل دولاً كثيرة لمراتٍ
عديدة، وقد مضى على استهداف إسرائيل له أكثر من خمسة وعشرين سنة، ولكنها
لم تنجح في النيل منه، أو في اصطياده، في غزة أو في الخارج، بل على العكس
من ذلك تماماً، فقد كان هو الذي ينجح في اصطياد مجموعات العملاء التي
تلاحقه وترصده، وهذا يدعونا إلى التوقف الجدي أمام بعض جوانب وحيثيات قضية
المبحوح، مع يقيننا أن المبحوح يعرف قاتليه قبل أن يلقاهم، ويعرف مصيره
وقد سعى إليه، ولكنه كان يتمنى أن يكون في سوح الوغى وميادين القتال .
من
الذي كان يعلم بسفر المبحوح إلى دبي، وهو الذي سافر إليها مراتٍ عدة، ومن
المؤكد أن الدائرة التي تعرف بسفره دائرةٌ ضيقة جداً، فهل كان غيرهم على
علم ببرنامج المبحوح، وخط سير رحلته، وهل كان المبحوح يخضع لمراقبةٍ
ومتابعة لخط رحلته قبل أن يصل إلى دبي، خاصة إذا علمنا أنه وصل دبي مساء
يوم الثلاثاء الموافق 19 يناير / كانون ثاني 2010، ودخل غرفته في الفندق
القريب من مطار دبي بعد الساعة التاسعة من مساء اليوم نفسه، وقتل بعد
ساعاتٍ معدودة من دخوله دولة الإمارات العربية المتحدة، فهل كان الجناة
ينتظرونه في دبي، أو يتوقعون وصوله في هذا اليوم بالذات، أم كانوا يرصدون
ويتابعون مكاتب السفر السياحية، ويعرفون الجهة التي استصدر المبحوح منها
تذكرة سفره.
ولنا أن نتساءل كيف دخل الجناة إلى غرفة محمود المبحوح،
وكمنوا له فيها، علماً أن غرفته كانت موصدة من الداخل، بمعنى أن الجناة
كانوا موجودين داخل غرفته، أو أنهم دخلوا إليها بطريقةٍ مبتكرة، والمعروف
عن المبحوح أنه لا يجيب أحداً بليل، ولا يفتح بابه لأي طارق، ولا يقف
قبالة الباب إذا سمع طرقاً عليه، وإنما يحاذي الباب في وقوفه، وإذا كان في
منطقة سكنه فإنه لا يفتح الباب إلا ويده على زناد مسدسه، وذلك بعد أن
يتأكد عبر عدسة الباب من هوية الطارق، فهذا يعني أن أحداً لم يطرق عليه
الباب، وأن الجناة لم يدخلوا عليه الغرفة، بدليل أنه دخل غرفته قبل
العاشرة مساء الثلاثاء، بينما تمت جريمة القتل في الساعة الأولى لفجر يوم
الأربعاء 20 يناير / كانون ثاني، أي أنهم كانوا موجودين أصلاً في غرفته،
وينتظرون في مخبئهم ساعة دخوله .
وهل أن الذي كان مختبئاً في غرفته
شخصٌ واحد فقط، وهو الذي قام بفتح باب الغرفة للجناة الآخرين ليدخلوا،
خاصةً إذا علمنا أن الشهيد المبحوح كان يهم بالخروج من الحمام بعد أن أنهى
استحمامه، فتكون الفرصة مناسبة لدخول آخرين إلى الغرفة دون أن يسمع بهم
الشهيد المبحوح، ففاجأه الجناة وهو خارجٌ من الحمام بعدة ضرباتٍ كهربائية
صاعقة على وجه ورأسه وصدره ورجليه، الأمر الذي أدى إلى شل حركته تماماً،
والسيطرة عليه، ثم النيل منه، خنقاً أو سماً، فكيف عرف الجناة أنه كان في
هذه اللحظة في الحمام، وأنه بعد لحظات سيخرج من الحمام، وبالتأكيد لن يكون
مهيئاً في هذه اللحظة لأي مواجهة، أو صراع وعراك مع آخرين، فقد كان
متأكداً من إحكام إغلاق باب غرفته، وأن أحداً غير موجودٍ فيها، ومن
الطبيعي أن يكون الإنسان في هذه الحالة في حالة استرخاء، ولا يكون متحفزاً
أو مستعداً لملاقاة خصوم أو أعداء، لذا فقد سهل السيطرة عليه، علماً أن
المبحوح كان شديد القوة، وعظيم البأس، ولا يقوى جمعٌ كبير من الرجال على
النيل منه، وهناك حوادث أكثر من أن تحصى، تؤكد بالدليل القطعي أنه كان
دوماً قادراً على مواجهة مجموعات كبيرة من الرجال، المتهيئين لقتاله،
والمستعدين لضربه، والمزودين بوسائل قتالية، فقد كان دوماً أقوى منهم
جميعاً، وكان ينجح في صرعهم أو ثنيهم عن الاستمرار في مواجهته، لذا فإن
الجناة كانوا يعرفون تماماً أنه في هذه اللحظة سيكون في أضعف حالاته، وقد
تخلى عن استعداده وتحفزه، وأنها ستكون أفضل لحظة لمهاجمته، وبالتأكيد أن
المهاجمين كانوا أكثر من واحد، وليس أقل من ثلاثة رجال، وهم بالضرورة
رجالٌ أشداء، يتمتعون بقوةٍ جسدية، ولديهم الخبرة الكافية في فنون القتال
والمواجهة، لأنهم يعرفون أنهم سيواجهون بطلاً صنديداً لا يتردد ولا يجبن
ولا يستسلم، وهنا يبرز سؤالٌ هام كيف عرف الجناة بهذه اللحظة، هل كانوا
كامنين له في غرفته، أم أن هناك كاميرات مراقبة كانت مزروعة مسبقاً في
غرفته، وهذا يعني أن أحداً كان يعرف ساعة قدومه، وأنه كان يعرف غرفته التي
سينزل فيها مسبقاً، فكمنوا فيها، أو زرعوا فيها كاميرات مراقبة.
أما أن
المبحوح قد تعرض لتحقيقٍ من الجناة قبل أن يقدموا على قتله، فإن هذا أمرٌ
مستبعد، ذلك أن الجناة ما كان لهم أن يسيطروا عليه إلا بعد أن فقد وعيه،
وشلت حركته، وهذه الحالة قد لا تتيح الفرصة للتحقيق، وإن كانوا قد سيطروا
عليه وأخضعوه للتحقيق فإنه لم يدلِ بكلمةٍ واحدة، ولم يقدم للجناة معلومةً
أياً كانت، فطبيعته الصلبة، وإصراره وعناده القديم يؤكد أنه حتى لو تعرض
إلى التحقيق والتعذيب، فإنه أبداً لا يقدم لعدوه أية معلومة تشفي صدره،
ولذا فإن فرضية استجوابه والتحقيق معه قبل قتله فرضيةٌ مسبعدة، لجهة أن
الجناة كانوا في حالة خوفٍ وترقب، وأنهم كانوا في عجلةٍ من أمرهم لإنهاء
مهمتهم ومغادرة البلاد، والثانية أن المبحوح الذي قد يكون قد أيقن أن
مقتولٌ لا محالة، فكانت صلابته وعناده أشد وأقوى.
شرطة إمارة دبي أعلنت
أنها تعرفت على هوية المشتبه بضلوعهم بالاعتداء على المبحوح وقتله، فهي
إذاً تعلم أين كانوا يقيمون، ومتى دخلوا دبي، وهل كانت غرفهم على مقربة من
غرفة المبحوح، وهل كانوا أصلاً نزلاء معه في ذات الفندق، وهي تعلم تماماً
متى غادروا البلاد، وإلى أي جهةٍ اتجهوا، وتستطيع من خلال بصمة العين أن
تتابعهم، وأن تحدد بدقة هويتهم، والجنسية التي ينتمون إليها، أو يحملون
جوازاتها، وقد أعلنت شرطة دبي عن هذه المعلومات في اليوم الثامن لجريمة
الاغتيال، وهنا يبرز سؤالٌ هام، لماذا تأخرت حكومة دبي في إعلان هذه
النتائج، ولماذا لم يتم الإسراع في كشف هذه الخطوط للحيلولة دون فرار
الجناة، وقد يقول قائل أن الفندق الذي تمت فيه الجريمة يقع على مسافةٍ
قريبة من المطار، لذا فإن الجناة قد غادروا دبي فور إتمام جريمتهم، ولم
يكن هناك فاصلٌ زمني كبير بين الجريمة ومغادرة الجناة لمسرحها.
كما
يبرز سؤالٌ آخر لماذا لم تعلن حركة حماس أن الحادث الذي تعرض له المبحوح
كان جريمة اغتيال، بل أعلنت بعض وسائل الإعلام القريبة من الحركة أنه توفي
نتيجة مرضٍ عضال، وبعد صراعٍ طويل مع المرض، رغم أن المبحوح لم يكن يعاني
من أي مرض، ولم يكن يشكو من أي علة، فقد كان بالإمكان الاعلان مباشرة حتى
قبل التأكد من صدقية المعلومات، أن المبحوح قد قتل، وأنه قد تعرض لعملية
اغتيالٍ، خاصة أنه قد تعرض قبل فترة لعمليةٍ مشابهة، وفقد فيها الوعي في
دبي لعدة أيام، ومعروفٌ في كل الأوساط أنه مستهدف بالقتل، وأن الموساد
الإسرائيلي، وبعض أجهزة الاستخبارات العربية تلاحقه، وتعمل بجدٍ على قتله،
فلماذا تم استبعاد احتمال الاغتيال منذ الساعات الأولى لمقتله، وأشيع أن
المبحوح كان مريضاً، وأنه كان يتلقى أدوية وعلاجاً، وأنه قد يكون قد توفي
بأثر المرض، أو نتيجة لجلطة دماغية مفاجئة، ألم تعطِ هذه المعلومات
الخاطئة الفرصة الكافية للجناة ليتواروا عن الأنظار، وأن يزيلوا كل
الآثار، وأن يغيبوا في أماكن مجهولة تماماً، وأن يطمسوا وراءهم كل أثرٍ قد
يدل عليهم، وقد كان بالإمكان إعلان خبر حادثة الاغتيال، ومفاجأة المجرمين
به، وهو أمرٌ من شأنه أن يربك كل الأطراف، وأن يدخل الجميع، أصدقاء وخصوم
في دائرة الإرباك، وسيعرض خططهم للتشويه والاضطراب، وإذا عدنا إلى حادثة
محاولة اغتيال الأخ خالد مشعل رئيس المكتب السياسي في عمان، فإننا نجد أن
الإعلان المبكر في الدقائق الأولى التي تلت محاولة الاغتيال، قد أربكت
العدو، وأربكت السلطات الأردنية، وأجبرتهم على التعاطي بجديةٍ تامة مع ملف
محاولة الاغتيال، وقد حاول مدير المخابرات الأردنية ثني الحركة عن
اشتباهها، ولكنه وحكومته أذعنوا في النهاية لحقيقة محاولة الاغتيال،
وأجبرت الحكومة الأردنية على متابعة المجرمين، وفرض الشروط على حكومة
نتنياهو في حينها، ولذا فإن تأخير الاعلان عن جريمة اغتيال المبحوح قد
أعطت الجناة الفرصة الكافية للتخفي أو الاندثار تماماً، وقد منعت حكومة
دبي وشرطتها من التعاطي الجاد والفوري مع الحادثة، وقد كان من الممكن أن
تجري الأمور بجديةٍ أكثر لو تم الاعلان عن حادثة الاغتيال لحظة وقوعها،
خاصةً أن غالبية الذين يعرفون المبحوح يدركون أنه ملاحق ومستهدف، وأن
محاولات النيل منه لن تتوقف، وأنه قد استعد طويلاً ليومٍ يلقى في ربه
شهيداً .
وقد يرى بعض المهتمين والعارفين، أن الامتناع عن إعلان خبر
الاغتيال، وإشاعة الموت الطبيعي بسبب المرض، إنما كان بقصد تسهيل استعادة
الجثمان من دبي، لضمان إجراء التشريح والمعاينة الطبية القانونية، بصدقيةٍ
ونزاهةٍ علمية ووطنية، ولعل هذه حجةٌ باطلة، ودفاعٌ عن السلوك ضعيف،
فأولاً نحن لا نقدس قبراً، ولا نبكي على أطلال جثمان، وكما كانت الأرض
كلها لنا مسجداً وطهوراً، فإن كل مكانٍ يسجى فيه ميتنا هو قبرٌ له، وكم من
صحابة رسول الله قد أكلت السباع أجسادهم، أو تناولته أسماك البحار طعاماً
لها، وخلال مقاومتنا للعدور الإسرائيلي فإن لدينا مئات الشهداء الذين لا
نعرف لهم قبوراً، ولم نتسلم لهم جثماناً، وبعضهم قد دفن في أرضٍ لا
نعلمها، وسكن أجوافاً لا نعرف قعرها، ولكننا نحسبهم عند الله شهداء، ولم
يقلل غياب قبورهم من شهادتهم شيئاً، والأمر الآخر أن حكومة دبي لن تتأخر
عن تسليم الجثة، ولن تحتجز الجثمان، ولن تبقي على جسد الشهيد في برادات
مستشفياتها، ولن تخفي نتيجة التشريح، وقد أثبت الوقائع أن تحريات شرطة دبي
كانت جادة، وقد أجرت تحقيقاً منصفاً، وأعلنت عن نتيجة التشريح، ووجهت
الاتهام إلى إسرائيل وجهاز أمنها الموساد بالضلوع والمسؤولية عن هذه
الجريمة .
أسئلةٌ كثيرة يجب على المعنيين أن يتوقفوا عندها، وألا
يمروا أمامها مرور الكرام، لماذا سافر المبحوح وحده إلى دبي، ولماذا لم
يسافر معه مرافقه الخاص، ومن الذي كان يعلم بخط سير رحلته، ومن أي المكاتب
السياحية اشترى تذكرة سفره، وحجز ليوم مغادرته، وما هي الملفات التي كان
يحملها المبحوح ويهتم بها، وأسئلةٌ أخرى كثيرة يجب طرحها، وينبغي عدم
الاستهانة في صغيرها وكبيرها، فحتى لا تتكرر مثل هذه الجرائم، وحتى لا
تنال منا إسرائيل مرةً أخرى، وحتى لا نسمح للمتعاونين معها أن يتجرأوا
علينا أكثر، فينبغي أن يتم التحقيق الجدي والعميق في حيثيات وملابسات هذه
الجريمة، وأن يطال التحقيق كل المحرمات، وأن يمس كل الأقداس، فلا ينبغي
الاعتراف بالعجز، والتسليم بالهزيمة، وتقييد الجريمة ضد مجهول، فكل أدوات
التحقيق ومعرفة الحقيقة متوفرة لدينا، فهذا بيانٌ للنائب العام في دبي،
وحاكم دبي، ورئيس دولة الإمارات العربية المتحدة من أهل الشهيد، ومن
أصحابه، ومن كل المحبين للشهيد محمود المبحوح، أن يتابعوا التحقيق في
جريمة الاغتيال، وألا يسمحوا للعدو أن ينال منا، أو أن يخترق سيادات
بلادنا، وأن يعيث في أرضنا فساداً، وأملنا أن يتابعوا البحث عن الجناة
أينما كانوا، وجلبهم ليكونوا عبرةً لغيرهم .
أبا الحسن قد رحلت عنا
وإنك اليوم لشهيدٌ عند الله حيٌ ترزق، وإن روحك اليوم في قناديل معلقة تحت
عرش الرحمن، وإنك لتنعم بصحبة خير خلق الله، محمد صلى الله عليه وسلم
وصحابته الأخيار، وأنت اليوم في جنات الخلد مع الشهداء الذين أحبتهم، ومع
الأخيار الذين بكيت لفراقهم، وإننا اليوم إذ نحزن لفراقك، ونذرف الدمع على
غيابك، فإننا سنمضي على دربك، ونعاهد الله أن نستكمل معك المسيرة، وأن
تبقى رايتنا مرفوعة، وعزنا قائم، وجهادنا باقٍ، فإما نصرٌ أو شهادة، فسلام
الله عليك أبا الحسن في الخالدين .
بيروت في 31/1/2010
عدد القراءات :