:بسم الله: :بسم الله:
نحناح.. الشيخ الرئيس
الراحل الشيخ محفوظ نحناح
لم تزل تعبيراته الأنيقة ترنُّ في أذني.. ولم تزل مواقفه الوطنية الكبرى تزيدني كغيري احترامًا له وإعجابًا به.. ولم تزل ابتسامته العريضة وهشاشته وبشاشته مرسومة في مخيِّلتي، صانعةً جوًا من الأخوَّة الصافية دون تكلُّف.
التقيته للمرة الأولى في صيف عام 1990م في طرابلس، وبعد أقل من عشر دقائق من الجلوس معه شعرت أني أعرف الرجل منذ سنوات، وتعلقت به قلبًا وقالبًا؛ لأنني وجدت نفسي أمام عملاق اسمه الشيخ "محفوظ نحناح"- زعيم ومؤسس حركة مجتمع السلم الجزائرية (حمس)، رحمه الله.
وفي يوم التاسع عشر من يونيو الجاري مرَّ عام على وفاة الشيخ الرئيس كما يحب تلامذته وإخوانه في الجزائر أن يسموه، وما زال الرجل.. الموقف.. الخلق.. الإبداع.. ما زال حيًّا في القلوب، وهكذا مضى الشيخ "نحناح" في ركب الصالحين بإذن الله، ونسأل الله أن يحشره مع النبيين والصديقين والشهداء.
كان الرجل صاحب منهج متميز في العمل الإسلامي، وصاحب موقف متميز- بل ومتفرد- في التعامل مع العاصفة الدموية التي هبَّت على الجزائر عام 1989م، وما زالت بقايا ريحها السموم تهب على البلاد، وهو إن كان صاحب تعبيرات مشهورة في الخطاب الجماهيري والإعلامي فهو صاحب مواقف سياسية متفردة- كما قلت- في التعامل مع الأزمة الجزائرية.. وهنا أتوقف قليلاً، فمنذ أن تفجَّرت موجات العنف العاتية على البلاد- عقب انقلاب المؤسسة العسكرية على نتنائج الانتخابات البرلمانية التي فاز فيها الإسلاميون- انجرفت معظم الساحة يومها نحو تيار العنف، واستقرَّت المعركة بين النظام (المؤسسة العسكرية) المتشبث بالسلطة والسلطان، وقطاع كبير من الإسلاميين، وظلت المعركة حامية الوطيس، وما زالت شظاياها تتطاير ملحقةً الأذى بالمجتمع الجزائري.
يومها قرَّر الشيخ "محفوظ نحناح" عدم الاقتراب بحركته من ساحة الاقتتال، ونأى بإخوانه عن الولوغ في الدماء تحت أي مبرر أو شعار، وتمكَّن من النجاة بحركته من الحريق الكبير الذي لا منتصرَ فيه ولا مهزوم، بل وقف بكل قوة وحزم معارضًا ومفندًا لفتاوى إباحة دماء أبناء الجزائر، وجهر بآرائه المعارضة والمخطِّئة للاقتتال، وجرَّم مسلسل المذابح المتواصل، ولم يتزحزح الرجل قيد أنملة عن موقفه رغم فتاوى بتكفيره صدرت من خصومه، ومحاولات لقتله وقتل مساعديه تكررت أكثر من مرة، أسفرت إحداها عن مقتل نائبه الشيخ أبو سليماني، بل والتمثيل به.
كما ظل الرجل على موقفه ثابتًا كالجبل، رغم اتهام الكثيرين له بأنه تحالَف مع الحكومة أو مع النظام أو بالأحرى مع الجيش، وكنت واحدًا من الذين وجَّهوا له اتهامات بهذا الخصوص في حوارات صحفية عاصفة، لكنَّ صبرَ الرجل وقوةَ حجته وفهمَه الجيد لما يسلك من مواقف، ثم اتساع صدره ورحابته في تقبُّل النقد.. كانت كلها أدوات ناجحة في إقناع الآخرين.
لخَّص الرجل موقفه في كلمات قليلة: "إنني أتحالف مع الدولة الجزائرية؛ لأنني أسعى للحفاظ عليها، والدولة غير الحكومة، فالحكومات تجيء وتروح.. تزول وتقوم، لكن الدولة إن زالت فلا عودة، وإن تمزقت فمن الصعب جمعها مرةً أخرى.
وظل الشيخ الرئيس ثابتًا على مبدئه، يمد يده للتعاون والتحالف مع كل من يعمل للحفاظ على الدولة، حتى ولو كانت الحكومة أو الرئيس، ورفع شعار "المشاركة لا المغالبة"، وبالفعل قبل المشاركة مع النظام والحكومة، وأدار معها حوارًا أسفر عن تبني النظام الجزائري لمبدأ الوئام، ثم تمكَّن من تطوير مدرسة "الوئام المدني" إلى "المصالحة الشاملة"، ونجح في جعل ذلك بندًا رئيسيًّا في برنامج الرئيس.
وهكذا ظل الشيخ يمد يده بالحوار والمشاركة والتفاهم مع مؤسسة الحكم الجزائري، لا لدنيا أرادها، ولا لكرسي سعى إليه، وإنما من أجل الجزائر.. الدولة والوطن، ورغم ما لحق به من مؤسسة الحكم.. من إيذاء.. ومحاولات الإقصاء من الساحة؛ بتزوير الانتخابات ضده وضد حركته، إلا أنه ظل باسطًا يده بالحوار والدعوة للمشاركة، وقد فارق الرجل الدنيا بعد أن نجح في ضبط بوصلة مؤسسة الحكم نحو المصالحة والوئام ولملمة الشتات الجزائري، وهكذا تسير سفينة الحياة السياسية اليوم، وستصل بإذن الله إلى برِّ الوئام والأمان.
أسأل نفسي: تُرى لو أن الشيخ "محفوظ نحناح" انجرف بحركته نحو محرقة العنف الدموي كما انجرف آخرون..!! كيف سيكون حال الجزائر ساعتها؟! وهل ستكون هناك جزائر أصلاً؟!
وأسأل الذين خاضوا غمار العنف على امتداد أربعة عشر عامًا: ما الذي حققوه بالضبط غير إهلاك الحرث والنسل؟! أنا لا أجد أمامي سوى نتيجة واحدة هي سقوط أكثر من مليوني جزائري بين قتيل، وجريح، ومصدوم نفسيًّا، ومنتحرٍ مهاجرٍ، وواقع تحت نير البطالة ومطررقة الفقر.. هذا إلى جانب عشرين مليار دولار من الخسائر الاقتصادية وِفق الإحصاءات الرسمية.. رحم الله الشيخ الحبيب.