فى بعض الأحيان تبدو المصادفة العابرة كأنها قدر مقدور ، وحكمة مدبرة فى كتاب مسطور .. حسن ا"لبنا".. إنها مجرد مصادفة أن يكون هذا لقبه .. ولكن من يقول :إنها مصادفة ، والحقيقة الكبرى لهذا الرجل هى البناء ، وإحسان البناء ، بل عبقرية البناء؟
لقد عرفت العقيدة الإسلامية كثيرا من الدعاة.. ولكن الدعاية غير البناء.. وما كل داعية يملك أن يكون بناء ، وما كل بناء يوهب هذه العبقرية الضخمة فى البناء.
هذا البناء الضخم .. الإخوان المسلمون.. إنه مظهر هذه العبقرية الضخمة فى بناء الجماعات .. إنهم ليسوا مجرد مجموعة من الناس ، إستجاش الداعية مشاعرهم ووجداناتهم ، فالتفوا حول عقيدة .. إن عبقرية البناء تبدو فى كل خطوة من خطوات التنظيم .. من الأسرة الى الشعبة ، الى المنطقة ، الى المركز الإدارى ، الى الهيئة التأسيسية ، الى مكتب الإرشاد.
هذا من ناحية الشكل الخارجى ، - وهو أقل مظاهر هذه العبقرية – ولكن البناء الداخلى لهذه الجماعة أدق وأحكم ، وأكثر دلالة على عبقرية التنظيم والبناء .. البناء الروحى .. هذا النظام الذى يربط أفراد الأسرة وأفراد الكتيبة وأفراد الشعبة. هذه الدراسات المشتركة ، والرحلات المشتركة ، والمعسكرات المشتركة .. وفى النهاية هذه الإستجابات المشتركة ،والمشاعر المشتركة ، التى تجعل نظام الجماعة عقيدة تعمل فى داخل النفوس ، قبل أن تكون تعليمات وأوامر ونظما.
والعبقرية فى إستخدام طاقة الأفراد ، طاقة المجموعات ، فى نشاط لا يدع فى نفوسهم ولا يدعهم يتلفتون هنا أو هنالك يبحثون عما يملأون به الفراغ.. إن مجرد إستثارة الوجدان الدينى لايكفى.. وإذا قصر الداعية همه على هذه الإستثارة فإنه سينتهى بالشباب خاصة الى نوع من الهوس الدينى ، الذى لا يبنى شيئا .. وإن مجرد الدراسة العلمية للعقيدة لا تكفى . وإذا قصر الداعية همه على هذه الدراسة ، فإنه سينتهى الى تجفيف الينابيع الروحية التى تكسب هذه الدراسة نداوتها وحرارتها وخصوبتها. وإن مجرد إستثارة الوجدان والدراسة معا لا يستغرقان الطاقة، فستبقى هنالك طاقة عضلية ، وطاقة عملية ، وطاقة فطرية أخرى فى الكسب والمتاع والشهرة والعمل والقتال ..
وقد استطاع حسن البنا أن يفكر فى هذا كله .. أو أن يلهم هذا كله ، فيجعل نشاط الأخ المسلم يمتد – وهو يعمل فى نطاق الجماعة – الى هذه المجالات كلها ، بحكم نظام الجماعة ذاته. وأن يستنفد الطاقات الفطرية كلها ، فى أثناء العمل للجماعة ، وفى مجال بناء الجماعة .. استطاع ذلك فى نظام الكتائب ، ونظام المعسكرات ونظام الشركات الإخوانية ، ونظام الدعاة ، ونظام الفدائيين ، الذين شهدت معارك فلسطين ، ومعارك القنال نماذج من آثاره ، تشهد بالعبقرية لذلك النظام .
ترى أكانت مصادفة عابرة أن يكون هذا لقبه ؟ أم أنها الارادة العليا التى تنسق فى كتابها المسطور بين أصغر المصادفات وأكبر المقدورات فى توافق واتساق؟
ويمضى حسن البنا الى جوار ربه ، يمضى وقد استكمل البناء أسسه ، يمضى فيكون استشهاده على النحو الذى أريد له : عملية جديدة من عمليات البناء .. عملية تعميق للأساس ، وتقوية للجدران . وما كانت ألف خطبة وخطبة ، ولا ألف رسالة للفقيد الشهيد لتلهب الدعوة فى نفوس الإخوان ، كما ألهبتها قطرات الدم الزكى المهراق .
إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع ، حتى إذا متنا فى سبيلها دبت فيها الروح وكتبت لها الحياة .
حقوق الطبع محفوظة