إنها مراحل ولها حسابات
وهذه الأفكار تمثل مراحل لعملية واحدة، وهي عملية الإصلاح الشامل، أي إصلاح المجتمع وإصلاح النظام السياسي؛ لأن ترك السياسية يعني العودة لمرحلة التأسيس الأولى، والتي تقوم على دعوة الناس للفكرة، قبل الخوض في غمار تنفيذها في المجال العام، والعمل السياسي العام يمثل المرحلة التالية لذلك، وهي مرحلة بداية تنفيذ الفكرة على أرض الواقع، ونشرها في المجال العام، ومرحلة التنافس للوصول إلى السلطة، هي مرحلة التنفيذ السياسي، والتي تهدف لتحويل الفكرة إلى واقع معاش في المجال السياسي.
أما المواجهة مع النظام الحاكم لفرض التحول الديمقراطي، فهي مرحلة من مراحل التنافس السياسي للوصول للسلطة، وهي تحدث عندما يمتنع النظام الحاكم عن الاعتراف بحق الأحزاب المنافسة له في المنافسة الشريفة والحرة، أو يمتنع عن الاعتراف بنتائج الانتخابات، أو يمتنع عن إجراء انتخابات نزيهة.
وهذه المراحل تبدأ من المرحلة الاجتماعية، وهي مرحلة إصلاح المجتمع، ثم تليها المرحلة السياسية، والتي تهدف في نهايتها إلى إصلاح وتغيير النظام السياسي، وتبدأ بتأسيس المشاركة السياسية وتنمية الوعي بالهمِّ العام والمصلحة العامة. يليها بعد ذلك مرحلة العمل على وحدة الأمة وتحقيق النهضة، وهناك من يختار لنفسه التخصص في مجال واحد للعمل، وبالتالي لا تصبح المراحل بالنسبة له جزءًا من خطة عمله، فهناك من قد يركز على إصلاح المجتمع، دون أن يخطط للتحول إلى المرحلة السياسية، وهناك من يدخل مباشرة في العمل السياسي الحزبي، وهذه كلها اختيارات صحيحة؛ لأن كل حركة يكون لها مجال عملها الذي تختاره، والذي تبني نفسها بصورة تناسبه، ولكن جماعة الإخوان المسلمين، منذ تأسيسها أنشئت على أساس أنها حركة اجتماعية إصلاحية، وهي بهذا أسست لتمر بكل هذه المراحل، أي أن هذه المراحل جميعًا؛ هي خطوات في طريق الجماعة نحو تحقيق هدفها.
بهذا نرى أن جماعة الإخوان المسلمين طوَّرت عملها عبر العقود الماضية، وتجاوزت مرحلة الاستئصال التي تعرضت لها في عهد الرئيس جمال عبد الناصر، واستطاعت أن تصل إلى مرحلة يصعب معها استئصالها، ويلاحظ أن الجماعة انتقلت من مرحلة التأسيس التي تركِّز فقط على العمل الدعوي والإصلاح الاجتماعي إلى المرحلة السياسية، والتي تبدأ بالمشاركة السياسية العامة، بجانب العمل الدعوي والاجتماعي. وهنا نلاحظ أمرًا مهمًّا، أن الجماعة وهي تنتقل من مرحلة إلى أخرى، لا تستطيع العودة إلى مرحلة سابقة؛ لأن هذا يمثل بالنسبة لها تراجعًا، قد يصعب تعويضه مستقبلاً، فما استطاعت إنجازه من وجود سياسي حالي، قد لا تستطيع تعويضه إنْ تركت المجال السياسي جملة ولو لفترة مرحلية.
كما يُلاحظ أن الجماعة حذرة جدًّا، في مسألة الانتقال من العمل السياسي العام، إلى العمل السياسي الحزبي التنافسي، بهدف الوصول إلى السلطة؛ وجزء من هذا الحذر مرجعه أنها لا تريد الدخول في مرحلة، ثم تفشل في الاستمرار فيها، وتضطر إلى التراجع، وجزء آخر من هذا الحذر مرجعه أنها لا تريد الدخول في مرحلة تكون فيها التكلفة بلا عائد؛ فالثمن الذي تدفعه الجماعة لعملها العام، له عائد متمثل في انتشار فكرتها بين الناس وتزايد التأييد الشعبي لها، ولذا ترى الجماعة أهمية أن يكون لعملها نتاج على الأرض، وإلا أصبح نوعًا من المغامرة غير المحسوبة.
الخلاصة
أول ما نستنتجه من تلك الآراء المتنوعة، أهمية وجود تنوع داخل الحركات الإسلامية، من حيث مجالات عملها ومؤسساتها؛ فوجود حركات تعمل في المجال الدعوي فقط، وأخرى تعمل في المجال الاجتماعي فقط، وثالثة تعمل في المجال السياسي فقط، أمر يفيد المشروع الحضاري الإسلامي، ويعدِّد من الأبنية المشكَّلة لتيار الوسطية الحضارية الإسلامية، بما يساعد على تعميق المشروع الحضاري وتحقيق أهدافه.
يلاحظ أيضًا، أن هناك فرقًا بين المؤسسة المتخصصة والحركة الاجتماعية؛ فالحركة الاجتماعية مثل جماعة الإخوان المسلمين، تمثل كتلة جماهيرية رئيسية تتشكل وتبني من أجل إقامة إصلاح شامل؛ وهي بهذا ليست مؤسسة متخصصة، بل بنية اجتماعية تبني داخل المجتمع، وتصبح جزءًا منه، وتعمل على إصلاحه وتحريكه وتنشيطه؛ مما يجعلها وحدة اجتماعية رئيسية في بنية مشروع الإصلاح والنهضة، وهذه البنية المجتمعية لا يصلح حصرها في مجال عمل واحد، كما يصبح تطور حركتها مربوطًا بتطور حركة المجتمع، وإنْ استطاعت أن تسبقه بخطوة أو أكثر، ولكنها لا يمكن أن تقفز بخطوات لا يستطيع المجتمع مجاراتها فيها؛ كما أن تلك البنية المجتمعية المتشعبة لا تتناسب مع المغامرات السياسية التجريبية أو غير المحسوبة، بل يناسبها الخطوات الملائمة لمدى انتشارها المجتمعي، أي التي تناسب ثقلها المجتمعي، وتقوم على قياس دقيق لوزنها المجتمعي.
نعني بهذا؛ أن جماعة الإخوان المسلمين، تمثِّل حركة اجتماعية، يتطور دورها المجتمعي من المجال الاجتماعي إلى المجال السياسي، وصولاً إلى مرحلة التنافس على السلطة ومرحلة إصلاح وتغيير النظام السياسي؛ لتنتقل بعد ذلك لغايتها الرئيسية، وهي وحدة الأمة ونهضتها.
ومؤسس الجماعة حسن البنا هو الذي اختار لها هذا الطريق، وهو الأصعب بالفعل، وربما يكون الأكثر كلفةً، ولكنه يمثل في الواقع العمود الرئيسي لمشروع النهضة الحضارية، والذي لن تتحقق النهضة بدونه، كما أنها لن تتحقق به وحده.
ونعني بهذا أن مشروع النهضة يحتاج إلى حركة اجتماعية واسعة، منتشرة في مختلف أرجاء الأمة، حتى تمثل نواة التيار الأساسي الذي سيحمل مشعل النهضة.
وعليه يكون اختيار الجماعة بممارسة العمل السياسي العام مسألة ضرورية، لا يجوز التراجع عنها إلى مرحلة سابقة عليها، ولكن عليها تطوير نشاطها السياسي؛ ليصبح حركة مستمرة إلى الأمام، تمهِّد لمرحلة حسم عملية الإصلاح السياسي والتحول الديمقراطي، كما تمهِّد لمرحلة التنافس للوصول إلى السلطة.