قد لا يختلف اثنان في أن العمل الإصلاحي أو التربوي التغييري أو بصفة أعم العمل الدعوي من الطبيعي له أن يتطور تدريجيا في انتشاره وفي خططه من الفرد إلى الجماعة ومن المجموعة إلى المؤسسة ومن المبادرة إلى المشروع، وكل هذا مؤصل له بحكم طبيعة الأشياء وسنن الحياة، وكذلك بتوجيهات القرآن الكريم والسنة النبوية من الواجب العيني تجاه النفس إلى الواجب الكفائي نحو المجتمع، والمعلوم أن الدعوة كلما اتسع ميدانها وكثر أتباعها وتعددت مشاريعها وجب تأطير العمل مؤسسيا من خلال منظومة لوائح وقوانين داخلية فيما بين الأفراد ونظم وقوانين خارجية معتمدة تحمي وتسهل كيفية التعامل الخارجي، غير أن العاملين في الدعوة أحيانا يتناسون أمرين مهمين فتحدث المفاجئة:
1- أن العامل في مرحلة المؤسسات لا يلتفت للمنطلقات ويكتفي بنسبة الإنجازات.
2- قد يضطرب في ذهنية الفرد أو المجموعة معيارا التمييز التقييمي بين المكاسب والمناصب.
والخلل في الأولى قد يجعل المعروف منكرا، أو الهيكل معبدا أو الأرواح أشباحا أو الربانية دروشة أو الدعوة دعاية.
أما الخلل في الثانية فقد يحول المغانم إلى معالم، والتجرد إلى تمرد، والتملق إلى تألق، والرخص إلى فرص.
أيها الإخوان، دعونا ننتقل إلى الأهم ونتأمل الآتي:
صار لنا في الحكومة وزراء! وفي البلدية أمراء! وفي المجالس الشعبية خبراء! وفي العمل السياسي شركاء! وفي المجتمع المدني نظراء! وفي بعض المؤسسات مدراء! ولدى المنظمات والهيئات المماثلة سفراء!!! وهنا يمكن أن نتساءل هل واكب مسار الارتقاء في المناصب، والتدرج في المواقع شعور بقدسية الارتباط بالمنطلقات، أم غفل الكثير منا عن ذلك بحجة الانشغال بمهمة الانجازات ولو كانت في كثير من الأحيان عبارة عن سراب وفقاعات، من الخلل أن يقع في ذلك رجالنا في العديد من الهيئات، والأخطر أن يقع في ذلك من هم في مصاف القيادات!!
إن الخلل بدون شك وقع في الكيان بدرجة واسعة ولكن إذا كان ذلك في صف الأتباع أمكن تداركه ومواصلة المسير، أما أن يكون ذلك هو نصيب المتبوع فإن الأمر عسير وغير يسير!!!
إذا صار الواقع بهذه الصفة أصبح قول الصحابي "تعالى نؤمن ساعة" من واجبات المرحلة ولو توقف المسير!!! لأن ربنا أمرنا بالقصد في المشي (واقصد في مشيك) وحذرنا من الطاعة العمياء لمن ظهر عوره، ولو كان داؤه مجرد غفلة أو لا مبالاة (ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا).
أيها الإخوة الأفاضل،
ليس باليسير على من ألف السير الحثيث في درب دعوته تحدوه المبشرات وتشحذ همته التحديات من مختلف الجهات، ليس باليسير على هذا أن يجد الصدمة ممن ألف، والانحراف فيمن اتبع وعرف، لكنها قضية كبرى نعيشها اليوم وهي من الحقائق التربوية التي نغفل عنها أو نتغافل، ولكن حين تصدمنا الوقائع وتجابهنا الحقائق ندركها جيدا، إنها حقيقة الرجال، الرجولة الحقيقية إنها المروءة التي إن فقدت في الفرد فلا تفيد معها مساحيق وعظية أو ترقيعات تربوية وهل كان المصطفى صلى الله عليه وسلم عابثا -وحاشاه- حين قال:"خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" .
أخي الكريم ضع واقعك نصب عينك وتأمل في معنى قول الشهيد الملهم حسن البنا رحمه الله وهو يتكلم عن هذه الحقيقة، قبل ستين سنة عن إعداد الرجال (رأيت معكم في مقال سابق أن جماعة الإخوان المسلمين كانت في طليعة الجمعيات المنتجة من حيث المشروعات العامة والمؤسسات النافعة من مساجد ومدارس ولجان خير وبر ودروس ومحاضرات وخطب وعضات وأندية يتناوبها القول والفعل ولكن الأمم المجاهدة التي تواجه نهضة جديدة وتجتاز دور انتقال خطير وتريد أن تبني حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهية والهناء، وتطالب بحق مسلوب وعز مخصوب في حاجة إلى بناء آخر غير هذه الأبنية.
إننا في مسيس الحاجة إلى بناء النفوس وتشييد الأخلاق وطبع أبنائنا على خلق الرجولة الصحيحة حتى يصمدوا لما يقف في طريقهم من عقبات ويتغلبوا على ما يعترضهم من مصاعب، إن الرجل سر حياة الأمم ومصدر نهضاتها وإن تاريخ الأمم جميعا إنما هو تاريخ من ظهر بها من الرجال النابغين، الأقوياء النفوس والإرادات، وإن قوة الأمم أو ضعفها إنما تقاس بخصوبتها في إنتاج الرجال الذين تتوفر فيهم شرائط الرجولة الصحيحة، وإني أعتقد –والتاريخ يؤيدي- أن الرجل الواحد في وسعه أن يبني أمة إن صحت رجولته وفي وسعه أن يهدمها كذلك إذا توجهت هذه الرجولة إلى ناحية الهدم لا ناحية البناء..."
ثم يتكلم الشهيد رحمه الله عن الواقع الذي يرى فيه جيل الشباب حياة النعومة فيقول: "هل رأيت أولئك الشباب الذي تنطق وجوههم بسمات الفتوة وتلوح على محياهم مخايل النشاط ويجري في قسماتهم ماء الشباب المشرق الرقراق، وهم يتذللون على أبواب رؤساء المصالح والدواوين بأيديهم طلبات الوظائف؟ وهل رأيتهم يتوسلون للصغير والكبير ويرجون الحقير والأمير ويتوسطون حتى سعاة المكاتب وحجاب الوزارات في قضاء المآرب وقبول الطلبات؟ هل تظن- يا عزيزي- أن هذا الشباب إذا أسعفه الحظ وتحقق له الأمل والتحق بوظيفة من هذه الوظائف الرسمية يفكر يوما من الأيام في تركها أو التخلي عنها في سبيل عزة أو كرامة وإن سيم الخسف وسوء العذاب؟
نفوسنا الحالية في حاجة إلى علاج كبير وتقويم شامل وإصلاح يتناول الشعور الخامد والخلق الفاسد والشح المقيم وإن الآمال الكبيرة التي تطوف برؤوس المصلحين من رجالات هذه الأمة والظروف العصيبة التي نجتازها تطالبنا بإلحاح بتجديد نفوسنا وبناء أرواحنا بناء غير هذا الذي أملته السنون وأخلفته الحوادث وذهبت الأيام بما كان فيه من مناعة وقوة، وبغير هذه التقوية الروحية والتجديد النفسي لا يمكن أن نخطو إلى الأمام خطوة.
إذا علمت هذا وكنت معي في أن هذا المقياس أصح وأدق في نهضات الأمم والشعوب فاعلم أن الغرض الأول الذي ترمي إليه جمعيات الإخوان المسلمين "التربية الصحيحة" تربية الأمة على النفس الفاضلة والخلق النبيل السامي، وإيقاظ ذلك الشعور الحي الذي يسوق الأمم إلى الذود عن كرامتها والجد في استرداد مجدها، وتحمّل كل عنت ومشقة، في سبيل الوصول إلى الغاية) انتهى كلام الشهيد.
فبالفهم نرتقي وعلى المحبة نلتقي.