وإن الإحساس بثقل هذه المسؤوليات وآلامها في القلب، والاستشعار بها في الروح خفقانا بعد خفقان هو جزء من جدول أعماله اليومية يتبارى ليحوز على الموقع الأول في السبق. وأظن أن هذا هو العزم النبوي الذي يرفع الإنسان درجات فوق درجات عند الله، ويُكسب القرب من الرب ويوصل إلى المعراج الروحي.
وإن الهموم والآلام الصادرة من الشعور بثقل المسؤولية -مع استمرارها ودوامها خاصة- لهي دعاء غير مردود، ومنبع وافر مولّد لمشاريع بديلة، ونغم له تأثير السحر في القلوب المخلصة التي تمكنت من المحافظة على صفائها. إن بطل القلب والروح مرشح -بقدر ضخامة همّه- لتجاوز طاقته الذاتية، بل لتجاوز طاقة جماعته التي ينتسب إليها… وقد يتحول إلى مركز محوري لطاقة وقوة الأجيال الماضية والآتية. وأنبّه هنا مرة أخرى إلى ضرورة التمييز بين الذين يَحْيَون والذين يُحيُون (غيرهم).
وقد كررنا مرارًا وتكرارًا أن الذين يقضون أعمارهم في إخلاص ووفاء واهتمام بالآخرين إلى درجة إهمال أنفسهم من أجل إحياء الغير، هم الوارثون الحقيقيون للحقائق التاريخية، وهم الذين نودع أرواحنا وديعة مأمونة عندهم… أولئك الذين لا يطلبون من الجماهير أن تتبعهم، ولكن وجودهم نداء جهوري وأيّ نداء!.. فأينما كانوا، تهرع الجماهير إلى أولئك الربانيين وكأنهم مركز جذب… وقد تستقبل الموت بسعادة وراء ريادتهم.
وسيكون المستقبل بنماذجه الممثلة للمسؤولية وبمشاهد النجاح فيه أثرًا رائعًا لهؤلاء الربانيين القائمين بهذه المهمة الرسالية. إن وجود وبقاء أمتنا والأمم المتصلة بها، ومجموع ثمار وخيرات حضارة جديدة ومتميزة، والحركية الواسعة والباعثة للحياة لثقافة ثرية غنية… ستتنفس بأنفاس أولئك الربانيين، وترتفع كرايات خفاقة في السماء، وتسير نحو المستقبل على أكتافهم القوية… وذلك لأنهم أمناء على الحقائق السامية وورثة ثرائنا التاريخي العريق.
ومعنى وراثة التاريخ هو وراثة كل ركام الماضي المعروف والمجهول والصغير والكبير، وإنماء هذا الركام واستحداث مركبات جديدة منه، ثم نقل ذلك كله إلى الأجيال القادمة، أصحابه الحقيقيين. فإن لم يوفِّ هذا الوارث مهمته التاريخية المتعلقة باليوم والغد حقها من الاهتمام، فسوف يحسب مسؤولاً عن خراب اليوم وضياع الغد. وهي مسؤولية تضعه –إلى حد ما- في موضع خيانة القضية والتاريخ وهدم الجسور بيننا وبين المستقبل إذا ما وقع في غفلة وتقاعس أو توقف للبحث عمن يحيل إليه أداء المهمة، بل وحتى إن بهرته محاسن الآخرة الجذابة فذهل رغبًا إليها.
فمن الضرورات اللازمة حقًا أن نوقن بأن المستقبل لنا من حيث وجودنا وبقاؤنا وننظر إليه بهذه العين. فمن المهم لتنشيط حركتنا أن نجعل ذلك في رأس أولويات مشاعرنا وأفكارنا وبرامجنا. وخلاف هذا إهانة وخيانة للأمة. لقد آن الأوان، بل يكاد يفوت، لكي نتحمل مسؤولياتنا إزاء مؤسساتنا في كل مجال مثل الدين والعلم والفن والأخلاق والاقتصاد والأسرة، ونسمو بها إلى مواقعها الحقيقية في مسيرة التاريخ. ونحن -كأمة- ننتظر ونترقب طريق أبطال العزيمة والإرادة والجهد الذين يحملون هذه المسؤولية.
فنحن لسنا بحاجة إلى حسنات ونُظُم فكرية تُستجدَى من الخارج أو الداخل، بل حاجتنا الماسة هي إلى أطباء روح وفكر يحفّزون في كافة أبناء أمتنا حس المسؤولية وشعور الهمّ المقدس… أطباء روح وفكر يُمَكّنون أرواحنا من الانفتاح إلى أعماق الماوراء وآفاق الغيوب بدلاً عن وعود السعادة المؤقتة الزائلة، ويرفعوننا بخطوة واحدة إلى مراتب نرى فيها المبدأ والمنتهى معًا وسوية.
نعم، ننتظر أبطالاً يعشقون المسؤولية والقضية إلى درجة يتخلون فيها حتى عن دخول الجنة إذا لزم الأمر، بل وينقبّون عن مخرج إذا ما دخلوها من أجل توفية المسؤولية حقها… أبطالا يقولون: "واللهِ لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركتُه أو أهلِك دونه"
نعم إنه أفق نبوي… وإن عقلا ممتلئا بأنوار يستمدها من هذا الأفق يقول متى استوجب الأمر خاضعا خاشعا: "ليس في قلبي رَغَبٌ في الجنة ولا رَهَبٌ من جهنم… وإذا رأيتُ إيمان أمتي في خير وسلام فإنني أرضى أن أُحرَق في لهيب جهنم…" أو يمد ذراعيه متضرعا مبتهلا: "إلهي، ضخِّم بدَني حتى تملأ به جهنم، فلا يبقى فيها مكان لغيري.." فتهتز السموات بأنينه وبكائه.
إن إنساننا يحتاج اليوم أمس الحاجة إلى أبطال العمق اللدنيين الذين يذرفون الدموع على آثام أمتهم، ويقدمون مغفرة البشرية وعفوها على مغفرة أنفسهم، ويفضلون الوقوف والعمل في "الأعراف" سعداء بسعادة سكان الجنة، وحتى إذا دخلوا الجنة لا يجدون وقتا للاستمتاع بملذاتهم الشخصية.
كلمات رائعة وجديرة بالتدبر والحياة معها !!